تشهد الساحة الفلسطينية وهي مقبلة على الانتخابات البرلمانية الموعودة بتاريخ 22/5/2021، تعدداً في القوائم الانتخابية، إذ بلغ عدد القوائم ستًّا وثلاثين قائمة، وبلغ عدد المرشحين في هذه القوائم 1389 مرشحاً. ما دلالة هذا الإقبال الشديد على الترشُّح للانتخابات، لا سيما أنه سبقه إقبال شديد على التسجيل للانتخابات فاق التسعين بالمئة من بين أصحاب الحق في الاقتراع؟ هل هذا الإقبال الشديد هو مؤشر على سعي فلسطيني جاد من أجل التغيير الحقيقي، أو أنه تعبير عن الأزمة العميقة التي يعيشها النظام السياسي الفلسطيني، أو أنه خليط بين هذا وذاك؟
لا شك أن هذا الإقبال الشديد على المشاركة في العملية الانتخابية هو مؤشر على إحساس عميق بوجود أزمة فراغ قيادي في الساحة السياسية الفلسطينية، وتعبير عن رغبة واضحة في حل هذه الأزمة، لكنه سعي مأزوم، والمقصود بالسعي المأزوم أنه لن يؤدي في الغالب إلى حل المشكلات، بل سيواصل الدوران حولها، ويرجع ذلك للأسباب الآتية:
أولاً: اعتقاد الكثيرين من الراغبين في الدخول إلى العمل السياسي بمركزية السلطة (أي مؤسسات الدولة الموجودة في بلادنا) في حياتنا، والتعويل عليها في قيادة عملية التغيير، مع أن المؤشرات على هشاشة هذه المؤسسات بنيوياً، وعجزها عن استيعاب كل أطياف الشعب الفلسطيني، والقيود المفروضة على حريتها في تبني خيارات تنموية تحررية أكثر من أن تُعد وتُحصى.
وإذا أردنا أن نتخلص من حالة الأزمة لا بد من إعادة النظر في بنية السلطة، ودورها في حياتنا، إضافة إلى ترحيل الكثير من صلاحياتها في مجال الإغاثة والتنمية للمجتمع، وتحويل الصلاحيات ذات الطابع الوطني لقوى سياسية تشمل كل الأطياف السياسية، وتتبنى أهداف التحرر الوطني.
ثانياً: لقد انشغلت الساحة السياسية الفلسطينية بالمجادلات السياسية السطحية، وابتعدت عن إنتاج المعرفة اللازمة لترشيد السلوك السياسي والوطني للشعب الفلسطيني، لو طرحنا الأسئلة الآتية: ما الذي أوصل الشعب الفلسطيني إلى هذا الانسداد في علاقاته الوطنية وفي مشروعه التحرري؟ وما هي الموارد المتاحة للشعب الفلسطيني الآن؟ وكيف يمكنه المحافظة عليها وتعظيمها؟ ما هي السيناريوهات المتوقعة لمستقبل الشعب الفلسطيني؟ ما هي إستراتيجيات العمل الوطني التي يمكنها أن تُقلل المخاسر المتوقعة أو تُعظِّم المرابح المحتملة؟
للأسف لا توجد إجابات عميقة، كل ما هو مطروح سطحي ودعائي، ولا بد من التأكيد هنا أن الطريق نحو المستقبل لن يُفتح دون دراسات جادة ومتنوعة ونقاش علني يُجيب عن الأسئلة السابقة.
ثالثاً: غلبة الخطاب التبريري التوفيقي وأحياناً التلفيقي على النقاش العام، ويُلاحظ أن كل ما يهم القائمين على العمل السياسي والوطني هو الادعاء أن الأمور جيدة، وتحت السيطرة، وأنه في ظل التحديات القائمة لا يوجد في الإمكان أفضل مما كان، والابتعاد عن التفكير الاجتهادي الذي من شأنه أن يولد مقترحات مختلفة، ويبني مسارات عمل جديدة، وهكذا يعيش الفاعلون حالة من الجمود، ويقبعون داخل أسر مفاهيم متكلسة تأكل ذكاءهم، وتُحبط إرادتهم.
رابعاً: وجود حالة من الشتات والهشاشة المفاهيمية، إذ يُلاحظ أن الفاعلين السياسيين يتبنون مقولات مركزية ثم يتراجعون عنها بعد أن تُختبر على الأرض، وفي الغالب لا يكون تبني تلك المقولات ناتجا عن دراسة علمية، ولا التراجع عنها نتيجة لتقييم موضوعي، وعلى سبيل المثال، فإن القوى السياسية الفلسطينية نظرت للانتخابات في أكثر من مناسبة أنها المخرج والمنقذ، ولم تأتِ النتيجة وفقاً لما اشتهته القوى السياسية، إذ لم يتحسّن الأداء بعد الانتخابات مرة، وهذا هو حال الانتخابات التي أجريت عام 1996، وزادت المشكلات مرة أخرى، وهذا هو حال الانتخابات التي أجريت عام 2005 للرئاسة، وعام 2006 للمجلس التشريعي.
ثم ذهبت الفصائل للمغالبة والمواجهة في الميدان، كما حصل عام 2007، وبعد ذلك تم رفع شعار المصالحة، والآن يعودون للانتخابات، كل هذا يحدث من إقدام على تَبَنِّي خيارات والتراجع عنها دون أن يطرف لأحد رمش، فضلاً عن أن تُجري مراجعات حقيقية وجادة.
خامساً: الفشل في تحديد مساحات وخرائط الفعل السياسي والإداري والوطني والاجتماعي، حيث يُلاحظ وجود رغبة شديدة في الهيمنة على المساحات من قِبَل القيادة السياسية، وذلك من خلال الاستحواذ على كل الموارد، واحتكار عملية توزيعها بطريقة غير شفافة، إضافة إلى الإشراف المركزي والتسلطي على الموارد التي تملكها المؤسسات غير الحكومية من خلال الدعم الخارجي.
في هذا السياق لا بد من التأكيد أن إصلاح النظام السياسي في إطار حركة التحرر الوطني يختلف عنه في حالة الدولة المستقلة التي حصل شعبها على الاستقلال الحقيقي، وهذا يتطلب تنظيماً مختلفاً يأخذ بعين الاعتبار المحاور الآتية:
المحور الأول: بناء الحيز الاجتماعي وتمكينه من الفعل التنموي والإغاثي، وتحديد مساحات الفعل التراحمي والتضامني والتكافلي التي تشد أزر المجتمع، وتُقوِّي بنيته، وتصون حصانته، وتحاصر كل نوازع التسلط فيه، وتصد كل محاولات الاختراق المحتملة لقيمه وإمكاناته وصلابته، وتأخذ بعين الاعتبار المساحات التي تحتاج العلاقات الاجتماعية فيها للعلاقات التعاقدية التي تحفظ الحقوق سواء برعاية المجتمع، أو بإدارة مؤسسات الدولة.
المحور الثاني: بناء الحيز العام الذي تقوده الإدارات الحكومية، وتحديد مساحات فعلها فيه، والمهمات الملقاة على عاتقها، بحيث يتم تقديم أفضل الخدمات الممكنة للمواطن بعيداً عن سطوة الاحتلال أو ضغوطه.
المحور الثالث: بناء الحيز الوطني العام الذي تتحدد فيه مساحات الفعل السياسي وإدارة اختلافاته، ومساحات الفعل الوطني الذي لا يجوز الاختلاف فيه، بحيث تُجرى عملية تحديد هذه المساحات ورسم الخرائط بين مكونات المحاور الثلاثة استناداً إلى عقد اجتماعي يشمل كل الحقوق والواجبات والحريات والوظائف، إضافة إلى طريقة تداول السلطة في كل المساحات، مع التركيز على وجود الضمانات العملية الكفيلة باحترام الفعل وفق هذه المساحات والخرائط التي ينتظم فيها العمل الفلسطيني معرفياً وعملياً.