احتلت مسألة تصعيد القيادات مساحة واسعة من اهتمامات المجتمعات، كانت الوراثة سيدة الموقف في التجارب القديمة، وإلى جانبها كان الانتخاب والتوافق في بعض التجارب في الأزمنة السابقة، وركّز الإسلام على القوة والأمانة في اختيار المسئولين، وقد بدأت التجربة التاريخية الإسلامية بالتوافق (اختيار أبو بكر)، وتزكية الخليفة السابق (اختيار عمر)، والانتخاب (اختيار عثمان)، ثم تحوّل إلى حكم وراثي في تجارب الدول الإسلامية منذ الأمويين وحتى نهاية الدولة العثمانية.
ثم استقر الناس، خاصة في التجربة الغربية، على تصعيد القيادات على مستويات: المستوى الأول وهو اختيار القيادات السياسية بالانتخاب، والمستوى الثاني وهو اختيار القيادات المهنية من خلال المسابقات التي تُبرِز الكفاءة والقدرة في مجال التخصص.
لكننا في واقعنا الفلسطيني، نجري انتخابات، ونعقد مسابقات، وفي الكثير من الأحيان نجد أنفسنا أمام قيادات غير فعالة، وعاجزة عن تحقيق أهداف شعبنا في المجالات المختلفة، وما سأورده في هذا المقال هو ملاحظات تنطبق على الكثير من المؤسسات والإدارات والتنظيمات والقيادات في الشأن العام، ولا أطرحها هنا بغرض الهجاء، وإنما لإثارة النقاش، لعلنا نُصبح أكثر قدرة على تصعيد قيادات أكثر قدرة على الإنجاز.
ملاحظاتي الأولى في مسألة تصعيد القيادات تتمثل في النقاط التالي: الملاحظة الأولى مفادها أنك تجد في بعض المواقع العليا قيادات ضعيفة ما كان لها أن تصعد لولا توافق مراكز قوى مؤثرة على تصعيدها، والسبب في ذلك يرجع إلى اعتقاد مراكز القوى أنها ستتمكن من تحقيق مصالحها في ظل هذه القيادة الضعيفة، وفي هذه الحالة يستقر الوضع في الظاهر، لكن التفسخات الداخلية تتعاظم في هذه المؤسسات أو التنظيمات أو الحكومات.
والملاحظة الثانية تتمثل في بروز قيادات قوية، تتمكن من حمل العصا، وقد تفوز من خلال الانتخابات، وتحاول الإمساك بزمام الأمور، أو على الأقل أن تكون مؤثرة، في مؤسستها أو تنظيمها أو حكومتها، لكنها دون أن تنتبه تجد الكثير من الكفاءات تنفض من حولها، ولا يتقرب إليها إلا فاسد، أو ضعيف القدرات، وفي هذه الحالة يكثر التعبير عن السخط.
والملاحظة الثالثة تتجلى في تصعيد قيادات لها خطوط خارجية، ليس المقصود هنا عمالة، وإنما قنوات لإدخال أموال ومساعدات، أو تيسير مصالح للناس، وهذه ظاهرة موجودة بوضوح في الساحة الفلسطينية، وهذا يُفسّر المجاملات التي تُغلف سلوك الكثير من القيادات والشخصيات البارزة في الواقع الفلسطيني.
والمجموعة الثانية من الملاحظات التي سأوردها في هذا المقال تتمثل في النقاط التالية: النقطة الأولى تتمثل في أنه عندما تجري الانتخابات العامة، تجد الكثير من المشاورات، وأحيانًا الانتخابات الداخلية في التنظيمات، ويتم فرز المرشحين، لكن بعد خوض الانتخابات تجد أن الكثير من الفائزين غير مؤهلين للمهمة التي انتُخبوا من أجلها، وقد يكونوا ناجحين في المهمات السابقة، والمشكلة هنا تتمثل في مسألتين: المسألة الأولى أن التنظيمات تبحث شخصيات معروفة تستطيع أن تحقق الفوز، ولهذا تبحث عن أساتذة جامعات معروفين، أو مناضلين قضوا سنوات طويلة في السجن، أو رؤساء مؤسسات خيرية أو نقابية ناجحين، أو أبناء عائلات كبيرة. والمسألة الثانية تتمثل في أن التنظيمات لا تملك تصورًا واضحًا عن المهمات الجديدة التي توكلها للأشخاص، ولا تعرف الخصائص المطلوبة في الأشخاص الذين ترشحهم لتولي المناصب. والمسألة الثالثة هي تأثير التوازنات الجهوية في التعيينات، والتي تؤدي إلى إفراز أشخاص بكفاءة متدنية إرضاءً للمنطقة الديمغرافية التي يمثلها، وليس استنادًا للكفاءة التي يمتلكها.
والنقطة الثانية في المجموعة الثانية تتمثل في أنه عند فرز القيادات عبر الإجراءات الداخلية للتنظيمات تُفاجأ في الكثير من الأحيان بصعود قيادات ليسوا على درجة عالية من الكفاءة، وهذا يرجع في الأساس إلى ضعف الثقافة السياسية؛ إذ لا يمتلك الناخب تصورًا واضحًا عن المهمات التي يجب أن يقوم بها المنتخب، ولا للمواصفات التي يجب أن يتمتع بها، وفي الغالب يخضع الناخب إلى معايير عاطفية، خاصة في ظل غياب الحس النقدي داخل التنظيمات والفصائل.
والنقطة الثالثة تتمثل في أن القوى السياسية الفلسطينية تعيش تحت تأثير الكثير من المخاوف والهواجس، بسبب وجود الاحتلال وهيمنته وتدخلاته، إضافة إلى تدخلات العديد من الأطراف والجهات التي لا تكف عن محاولات إحداث اختراقات في الساحة الفلسطينية، ولهذا تجد أن الفصائل تركز على ولاء الأشخاص الذين تختار تصعيدهم، حتى لو كانت كفاءتهم محل شك، ويعتبرون أن الكفاءة يمكن أن تُكتَسب مع الوقت، أما الولاء فينظرون إليه كمتطلب سابق على تولي المناصب العليا.
لا بد من الوقوف أمام هذه الظاهرة وقفة جادة وصريحة، بعيدًا عن المجاملات، وأن نطرح هذه المسائل للنقاش العام، بعيدًا عن كل الوساوس والهواجس الأمنية، أو التخوف من الكيد السياسي.
وهنا يجب إعادة النظر في تاريخ الأشخاص، وتضحياتهم، ودرجاتهم العلمية، وخلفياتهم الاجتماعية، وإعادة ترتيب أوزان تلك الخلفيات عند اختيار الأشخاص أو التصويت لهم، والتركيز على حضورهم في اللحظة وما يمتلكونه من قدرات تناسب المهمات التي سيتصدون لها.
كما يجب تحديد معايير واضحة، وهذا لن يحدث دون نقاش علني وعام، للمواصفات المهنية، وطريقة استقطاب الكفاءات، وإلا ستجد نفسك أمام مؤسسة أو إدارة أو وزارة فيها مئة شخص، لكنك تحتار عندما تبحث منهم على مدير يمكن أن يكون ناجحًا.
هل سنُخضع هذا الموضوع الهام والحساس، وأقصد عموم الفلسطينيين دون استثناء، للنقاش العام؟ أم أننا سنبقى على ما نحن عليه؟ إن بقينا على ما نحن عليه فسيزداد ضعف الطبقات القيادية، وسيتكاثر عجزها، وبالتالي سنواصل السير مبتعدين عن أهدافنا ومصالحنا.