على الرغم من أصوات الطائرات التي لا تهدأ، ورائحة البارود التي تفوح من بين الركام، ما تزال كثير من العائلات في أحياء قطاع غزة ترفض الاستجابة لأوامر جيش الاحتلال الإسرائيلي المتكررة بإخلاء منازلها والتوجه إلى مناطق أخرى في الغرب أو الجنوب.
في حرب مستمرة منذ أكثر من عام ونصف العام يفضّل هؤلاء البقاء في بيوت مدمرة على الخضوع لواقع التهجير القسري المتكرر، الذي لم يترك لهم شيئًا إلا التشرد.
"لا تتركوا البيت"
عند مدخل منزله المتصدع في حيّ التفاح شرق مدينة غزة، وقف بدر البدراوي (46 عامًا) يشعل موقدًا بدائيًا صنعه من بقايا الحجارة والخشب المحترق. تصاعد دخان رمادي كثيف في الهواء المشبع برائحة البارود، بينما كانت زوجته، أم محمود، تعجن خبزًا على لوح خشبي مهترئ، غير آبهة بأصوات الطائرات التي لا تغادر سماء الحي منذ أيام.
في ذلك الصباح، كان الصمت يخيّم على الشارع، لكنه لم يكن صمتًا مطمئنًا؛ بل كان ثقيلًا، محمّلًا بالخوف من قصف محتمل أو تحذير جديد عبر مكبرات طائرات الاحتلال التي تأمر السكان بإخلاء منازلهم فورًا والتوجه إلى غرب المدينة.
غير أن البدراوي، كغيره من عشرات العائلات في أحياء الشجاعية والتفاح والزيتون والدرج وبيت لاهيا، قرر أن يبقى.
يقول لصحيفة "فلسطين": "يريدوننا أن نترك بيوتنا ليعودوا ويدمروها؟ لا، لن نمنحهم هذه الفرصة". ويضيف: "هذا البيت بنيته حجرًا حجرًا، لن أتركه مهما حدث".
يجلس أبناؤه الخمسة إلى جوار الحائط الجنوبي من المنزل، يلتقطون ما تبقى من إشارة الإنترنت على هواتفهم القديمة، ويتبادلون رسائل التحذير التي تصلهم.
تقول أم محمود بصوت منخفض: "نزحنا منذ بدء الحرب إلى الجنوب، عدنا فوجدنا البيت منهوبًا. أخذوا كل شيء.. حتى صور أطفالنا، حتى أغطيتنا. هذه المرة، إن قُدّر لنا أن نموت، نموت هنا في منزلنا".
تعيش العائلة في ظروف صعبة للغاية؛ لا ماء نظيف، لا كهرباء، ولا غذاء كافٍ. ومع ذلك، يفضلون البقاء على خوض رحلة نزوح جديدة لا يعرفون كيف تنتهي.
"المناطق الغربية ممتلئة بالنازحين، لا خيام، لا مراحيض، ولا أمان. على الأقل، هنا نعرف أين نموت"، تضيف أم محمود بنبرة مكسورة.
وفي كل مساء، حين تعود أصوات القصف لترتفع، يحتضن البدراوي أبناءه ويهمس لهم: "إن وقع القصف، تمسّكوا ببعضكم. لا تتركوا البيت.. لا تتركوه مهما حصل".
"لن أقضي حياتي نازحة"
في أحد الأزقة الضيقة بحي الزيتون جنوب شرق مدينة غزة، تجلس الحاجة أم ناصر خليفة (61 عامًا) على كرسي خشبي مهترئ أمام باب منزلها، تلفّ رأسها بإزار رمادي، وتمسح الغبار عن حافة النافذة المخلعة، بينما تُصغي لصوت طائرات الاحتلال التي تحلّق على علو منخفض فوق الحي.
رغم التحذيرات المتكررة من جيش الاحتلال بضرورة الإخلاء الفوري، ترفض أم ناصر مغادرة بيتها، بعد أن عانت مرارًا من النزوح في الشهور الماضية.
تقول بصوت مبحوح لـ"فلسطين": "نزحت عدة مرات إلى الجنوب... كل مرة كنا ننام في العراء أو في مدارس بلا ماء ولا كهرباء، بلا خصوصية. كنا نأكل بقايا المساعدات ونشرب ماء مالحًا. عدت إلى بيتي في يناير الماضي... وبعد كل التعب، يريدون أن نتهجر؟ لا والله، خليني أموت في داري".
المنزل الذي تسكنه متهالك، جزء من سقفه مغطى بالنايلون، وجدرانه مشققة بفعل الغارات السابقة. تعيش فيه برفقة نجلها الأصغر وعائلته، بعدما لجأ أبناؤها الآخرون وعائلاتهم إلى مراكز الإيواء غرب المدينة، لكنها رفضت مرافقتهم. تقول: "ما عاد عندي قوة أهرب. تعبت. كل ما أنزح، أحس قلبي بيضيع… شو ضل من العمر حتى أقضيه مشردة؟".
تحتمي أم ناصر ببطانية ثقيلة وتوقد نارًا صغيرة داخل وعاء حديدي لتدفئة يديها. تشير إلى الحائط المجاور وتقول: "هذا البيت شهد فرحي وحزني، كبروا أولادي فيه، وكل زاوية فيه بتحكي حكاية. إذا خرجت، ما أظن أرجع… وأنا لا أريد أن أموت غريبة".
ورغم تصاعد وتيرة القصف وازدياد المخاطر، ما زالت أم ناصر تُصرّ على قرارها. "الموت هنا أرحم من ذل النزوح"، تقولها بمرارة، ثم تسكت للحظة وتضيف: "ومن بيتي… لا أخرج إلا شهيدة أو على قدميّ".
"بقيت لأحمي ما تبقّى"
في بيت حانون، البلدة الشمالية التي تحوّلت إلى أطلال، بقي فادي عبد العال (39 عامًا) وحيدًا بين جدران منزله شبه المدمّر، رافضًا أن ينضم إلى قوافل النزوح القسري التي خرجت من البلدة تحت وقع القصف والتهديد الإسرائيلي المستمر بإخلاء السكان إلى الجنوب.
يحمل عبد العال مفتاح باب منزله في جيبه طوال الوقت، كأنما يتمسك به كحبل نجاة. يقول لـ"فلسطين": "كل شيء انهار من حولنا… الجيران، البيوت، الشوارع. لكن بيتي ما زال واقفًا، حتى لو تهشّمت نوافذه وسُحقت غرفه. لن أتركه".
كان عبد العال قد أرسل زوجته وأطفاله الأربعة قبل أسابيع إلى مدرسة على أطراف جباليا، خوفًا عليهم من الموت، لكنه اختار البقاء في منزله لحماية ما تبقى. "لدي بضاعة في المخزن، وثلاجات خضار، وبعض الأدوات الكهربائية التي أعمل بها. إذا غادرت، ستُنهب أو تُقصف… على الأقل هنا أحرس رزقي وتاريخي".
ينام عبد العال على فرشة إسفنجية بجوار الحائط الغربي، ويحتمي ببطانية شتوية خفيفة، ويشرب من مياه الأمطار التي يجمعها في حاويات بلاستيكية. يقول: "ليس لدي كهرباء، ولا طعام كافٍ، ولا حتى ماء صالح، لكن لدي ما هو أثمن… لدي مكاني، وكرامتي".
يرفض عبد العال الإخلاء: "النزوح يعني الإذلال… يعني أن تعيش عالة. أنا اخترت البقاء، ولو دفعت ثمن ذلك حياتي".
ويضيف: "قد يعود أولادي يومًا ويجدوا البيت واقفًا، يجدوني هنا… هذا وحده يكفيني كي أبقى".