يقول د. عبد الوهاب المسيري: "بدلًا من أن أصِل إلى الإنسان عن طريق الله، وصلتُ إلى اللهِ عن طريقِ الإنسان".
أمتعتني كثيرًا رشاقةُ المسيري في رحلته الباحثة التي بدأها من الإنسان، ذلك المخلوق المُركّب الذي اختزلته المادية فاختزلت السؤال عنه، وضاقت عن فهمه فضاقت عن فهم صانعه.
ثم جذبتني ثنائيات بيغوفيتش بين داروين ومايكل أنجلو، أو العلم والفن، وبين الثقافة والحضارة، وأخير ًا بين الدراما والطوبيا وتركيبية الأولى وسطحية الثانية.
يقول المسيري: إنّ الإنسان كائنٌ ثنائي الفِطرة لا يُمكن إغفال جانبه الروحي لصالح نزعته المادية، ولا يصحّ أن تطغى روحانيتُه على وجوده المادي في الحياة. وشأنه في ذلك شأن الحياة التي هي أسمى من الفكر.
لذا قال إنه ينبغي للإنسان من تجاوزٍ يتخطّى به عالمه الأرضي لما هو سماوي بصورةٍ تحقق له الاكتفاء المعنوي وكذلك الاكتفاء المادي الذي يحققه العلم. هذا الاكتفاء المعنوي لا يتحقّق إلا عن طريق الدين الذي يضع إجاباتٍ عن الأسئلة الغيبية التي لا يرقى لها العلم. وإن إنساناً يرفض هذا لهو إنسان يفقد إنسانيته طواعيةً ويختزل نفسه في صورةٍ فيزيائية كبقية الجمادات أحادية الصِبغة، فكيف تسأل العلم سؤالاً لا يملك أدواته، وتُنكر الدينَ الذي يُخبرك من لدن فوقي/مُفارقٍ/مُحيط عن الغيب الذي تنشغل بالسؤالِ عنه؟! العلم يقول لك الطريقة وأنت تسأل عن الغاية، فكيف تسأل من لا يُسأل إلا بـ"كيف"؟ وتقول له: لماذا؟
ما وراء الفيزياء/الميتافيزيقيا.. بيغوفيتش تحدّث في ذلك.. عن الروحانيات التي لا تسبر أغوارها الطبيعة ولا يفهمها العلم كما يفهم الملموسات.. عن الفنّ.. الثقافة.. عن الدراما والتداخل الإنساني. قال إن الإنسان لا يكون إنساناً إلا من هنا، أي يتجاوز الحضارة المادية التي هي أثر الإنسان على الأرض إلى الثقافة الروحية التي هي أثر الإله عليه، فتتحقق ذاته المُركّبة.
لن أتوغّل كثيراً في الأمر ومدى إقناع تلك الفلسفة للبعض من عدمه، ولكنّي أودُّ الحديثَ عن تجربتي مع الإيمان.. مع اللهِ الذي آمنتُ به وعرّفنيه الإسلام. الله الذي رأيته يوم أن رأى قلبي، وحُجِب عنّي حينما كنتُ جاحداً يطغى عقلُه على كلّ شيء.
أذكر ذلك الرجل الذي حكى عذابه الطويل حين سأله زميلٌ في العناء: هل ما زلت تؤمن بالله؟ فأجابه: "نعم، لأني بكلّ بساطة لن أستطيع -بمفردي- تحمّل كل ذاك".
أعلمت لِمَ قال يعقوب لبنيه "إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ"؟! إليكم التاريخُ فاذهبوا وانظروا أي الفريقين استمرّت دعوته على كلِّ هذه الصِعاب: فريق الإيمان، أم فريق الإنكار؟ ثم اسألوا أنفسكم: لِمَ تحمّل أُناسٌ كلّ هذا البلاء الذي لا نفع منه بمفاهيم الدنيا؟ فتجدوا أنّه لم يكن ذاك إلا لحقيقةٍ تجاوزا الدنيا إليها فأخضعوها إليهم ولم يخضعوا لها.
تسألني مَن الله؟ اللهُ يا صديقي هو الله الذي لا اهتداء إلا به، فتراه بغير عيْنٍ وتقربه دون حِراك. إن أفردت في السؤالِ عنه عقلَك شقيت لعجزِك عن الإحاطة، وإن شاطرته في السيرِ قلبَك وجدته في كل حين، فتراه في خفيِّ اللطِف، وفي سكون الأمن بعد الخوف..
الله.. هو الذي أعطاك القيمة حين أخبرك أنّه ربّك ولم يُفنِك في العدم، وكرّمك حين حرّرك من الموجودات وهيّأك للواجد. هو السيّد الذي ينتهي إليه السؤددُ فلا ينبغي لغيرِه أن يكون معه، و"لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا".
اللهُ الذي عرفته وعبدته وآمنتُ به هو الذي أخرجني من ضيقِ الأرض إلى رحابِه، ومن عجزِ عقلي إلى قُدرةِ قلبي، ومن ضلالِ السؤالِ إلى اهتداءِ الوحيّ، الله الذي لا يكتملُ الطريق إلا إليه، ولا يكون الصبرُ على الدنيا إلا لكون آخرته خيراً وأبقى.
اللهُ.. هو الذي قبل كل شيء، فإن لم ترَه فلست على شيء، وإن طلبته ففيك كل شيء. هو الذي ملك عليَّ روحي وخاطري فامتلأ عقلي وباطني، فهو السلامُ الذي منه السلام، فتبارك ذو الجلال والإكرام.