يحمل الكوبُ نصفًا ممتلئًا يدعوك إليه: انظر إليَّ وتفاءل، هناك نصف فارغ وهناك أنا، الأمور ليست سيئة على الدوام، هذا النصف يناديك على ألسنة الناس؛ من يواسونك ومن يربتون على كتفك في لحظات الضيق: هناك نِصف عامر يصبّرك عن نصفٍ خاوٍ، فلا تبتئس.
لكن، هل تعلم لِمَ تبتئس؟ أو ما الذي جعل الحزن اعتياديًّا في لحظات الفقد الناقصة، وجعل الموجود يواسي عن المفقود؟ هل تعلم لِمَ يواسي الموجود أصلًا ولا يُغني عن احتياج المواساة؟ هل عرفت الإجابة؟ إنّه تطلعنا إلى الكمال! ذلك الغائب الحاضر في أحلامنا على الدوام.
هذا التطلع الذي يجعل انتظارنا للعوض منطقيًّا، ويجعل حضور الثواب والعقاب في أذهاننا متجددًا باستمرار، فإن أحدنا لا يقبل فكرة أن يُظلَم دون استرداد حقه، كما لا يرى الإحسان جميلًا إن لم يُقابَل له بإحسان، لكن الواقع يخبرنا أن المظلوم قد يموت ومظلمته قائمة، وأن المُحسِن ربما يفارق الدنيا دون أن يلقى الثواب.
الواقع يخبرنا أن الحظوظ لا تتم في الدنيا، وأن المريض يموت ولا يشفى، وأن الفقير يقضي عمره محرومًا، يخبرنا أن المُسرِف على نفسه بالخطايا قد يحيا حياةً مرفّهةً، وأن الصابر على كل ما فقد قد لا يلقى شيئًا نظير ذاك، هذا الواقع الناقص الذي يمتلئ بالكراهية دون أن يمحيها الحب، ويعجّ بالفساد دون أن ينهيه الإصلاح، الواقع الذي يتدافع فيه الخبيث بالطيب، ويتبادل نصره الخير مع الشرور.
هذا هو الواقع الذي على الرغم من واقعيته لا نتصالح معه بالقبول؛ ذلك لأن شيئًا في نفوسنا لا يقبل النهاية على هذا الوضع، فلا يمكن أن يكون كل هذا بلا معنى، لا يمكن أن تتساوى دمعة طفلٍ باكٍ تحت حطام الحرب مع ضحكة المجرم الذي قتل أبويه، لِمَ لا يمكن؟ لأنك تودّ لو كان الكوب كله ممتلئًا وليس نصفه فقط، هذا أنت على حقيقتك، أو أن هؤلاء هم نحن على الدوام، فلو كان هذا هو الواقع، وكان تطلعنا للكمال منطقيًّا هكذا، فكيف يكون التوفيق بينهما إن لم يوجد يوم للحساب؟
نحن نقول أنه موجود، لأن الله أخبرنا بكونه كذلك، ولأن منطقنا البشري وفطرتنا التي يواسيها نصف الكوب الممتلئ تخبرنا -هي الأخرى- بأنه كائن مُنتظَر؛ ليكتمل ما ظل ناقصًا، فما الأمر إلا مسافة من الزمن، لذا يبقى السؤال الآخر: هل هو ممكن؟ والجواب أبسط من شربة الماء الذي يملأ كوبنا العزيز.
يخبرنا المنطق كما اعتاد أن يفعل، أن المهنّدس الذي يصنع الآلة يسهل عليه تفكيكها، وأن سهولة الصنع الأول تتضاعف عند التركيب الثاني، لأن التحدي دومًا يكمن في المرة الأولى، هذا مِثال، ولله المثل الأعلى، فكيف بمن خلق الإنسان من العدم أول مرة، ثم قدر عليه فأماته، هل يُعجزِه -عقليًا- أن يعيده ويبعثه؟
هذا المنطق الذي يخبرنا بأن شيئًا أصعب من البعث قد وقع بالفعل، فلا يكون البعث أقل إمكانًا منه، هو ما ينبّهنا كذلك إلى خلق الكون برُمِّته، نقول الكون لأنك قد لا تتخيل عظمة خلق السماوات والأرض، لكن رحلة بسيطة إلى الصديق جوجل ستخبرك كيف هو حجم هذا الكون المُذهل، ورحلة أخرى ستخبرك أن هذا هو الجزء المرئي منه، فكيف هو الحال مع جسدك الذي هو أبسط من قارة واحدة على كوكب واحد في مجرة تتكرر مليارات المرات؟
وبالحديث عن الإنسان والطبيعة، فربما لم نرَ إنسانًا يموت ويحيى مرةً أخرى، ولكننا بالطبع رأينا الأرض الميتة وهي تحيا من جديد، فهذا هو إمكان الشيء بدلالة وقوع نظيره، أي أن الأنف الذي يستنشق الأكسجين يمكنه أن يكرر الأمر مع غازٍ سام، ولأن عقلنا البشري يقيس النظائر تنبّه إلى ضرورة الكمامات فاخترعها، ولأننا نستطيع تعميم المثال يمكننا إدراك بعثنا بإحياء التربة التي أخبرنا الجدب عن موتها.
فالأمر الحتمي: لم يبقَ حتميًّا دون إمكان، والأمر المُمكن: تعدَّى إمكانَه ليكون حتمي الحدوث، لأن العدل قائم في فطرتنا، ونعرف في مقابله الظلم، كانت حتمية القيامة، ولأن النقص سُنّة دارجة في الدنيا، كانت منطقية اليوم الذي تكتمل فيه النقائص وتُغلَق فيه الحسابات، اليوم الذي ينتهي معه اختبار العباد، فيرى من اتبع المنطق أن الجزاء أتى في ختام المشهد، ويرى من ظنّ الأمر عبثًا أن الإله الذي خلق كل هذا حكيم بما يكفي لأن يضع له المعنى.