من أيامٍ لم تكن بالبعيدة فاجأني أحدُهم برأيِه في مسألةٍ تخصُّني، رافضًا، ليس فقط أن أُخالفَه في الرأي، ولكن حتى أن أُبدي رغبتي في عدم الاستماع له من الأساس، وكأنّه قد حقّ له القول وحقّ عليَّ الانصياع! ما أعنيه هنا بالطبع هو تجاوز المساحات الخاصة وليس النُصح بالمعروف أو النهي عن المنكرات.
وبهذا المنطق، أو بما يدور حوله بشكلٍ قريب، يُبدي الناسُ آراءهم في الناسِ أو شؤونِهم، ثم يعترض بعض الناس على أفعالِ الناسِ، ويتصارعون. وما أقصده هنا بـ "هذا المنطق" هو منطق التناقض بمعارضة الذات، ومخالفة المزعوم.
والمفارقة هنا لا تتجلّى فقط في تناقض الموقفين بقدر ما هي في الخلط الحادث في مفهوم الحرية، بل والتناقض الحادث في هذا المفهوم المغلوط. كيف؟
ليحافظ الإنسان على مبادئه من التجزئة، فإنه يحتاج إلى المعيارية التي تتحاكم إليها هذه المبادئ، فتقضي بالصواب والخطأ وَفقها، مبنية عليها وراجعة إليها. ولكي تكون المعيارية سليمة يجب أن تكون مُطلقة، أي ثابتة لا تتبدّل حسب الأهواء. ولتكون كذلك فإنها تحتاج لمُقنِّن ثابت مُطلق لا يتغير ليفرضها على النسبيين المُتغيرين. الأول هو الله تعالى، واللاحقون هم البشر.
وبسحب هذا إلى ذاك، نجد أن مفهوم الحرية سيتحاكم إلى معيارية الإله الثابتة في شرعِه، وهي مُنقسِمة إلى رافدين، الأول ما كان خاصًا تمامًا ولا إثم فيه، فيقول النبي ﷺ: "من حسن إسلام المرء، تركُه ما لا يعنيه". وهذه واحدة.
والثاني هو الإثم المعلوم المُفارق لحيّز الخصوصية، الظاهر في المجال العام، والمُتباهَى به في بعض الأحيان، وفي هذا لدينا: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ". وهذه تشفع سابقتها، ويتلاقى الرافدان في مصبٍّ وحيد، الحرية هي ألا تنتهك حُرمات الله على المشاع ثم تطلب ألا ينصحك أحدهم أو ينهاك، فحينها يكون الأمر قد خرج عن رغبتِك كمخلوق إلى رغبة الخالق الذي يأمر في هذا الحال بالنُصح والتقويم.
فإن كان المرءُ في بيته يفعل الذنب من وراءِ حجاب، فنعم لخصوصيته حُرمتِها ونرجو له اللهَ عفوَه، لكن إن خرج الإنسان بالذنب للمجال العام، بل وتفاخر به وأنكر خطيئتَه، فهو كمن دعا إليه، أو على أبسطِ الفروض أبدى تصالحًا معه بين المجتمع الذي يرفض –في مجموعه- أن تُنتهَك حُرمتُه بهذا الشكل الفجّ، وأن يُتعدّى على حقِّ الناسِ فيه بعدم معاينة الحرام، أو مشاهدته على الملأ دون مراعاة لمقدساتهم التي تُحرِّم هذا السلوك.
فمن فعل هذا فقد خرق حريته بنفسه لأنه تداخل مع المجالِ العام الذي أمر إلهُه أهلَه أن يتناصحوا بالمعروف ويتناهوا عن المُنكر؛ لأنه "لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى (...) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ". وكذا أيضًا على الجانبِ الآخر ألا تُنكِر على من يفعل المعروف ولا تنهره لذاك، فهذا وإن كان خارجَ نطاق حرية الاعتراض –لأنه يمنع الاعتراض أصلًا- فإنها نقطة واجبة الذكر بمناسبة الحديث.
هذا عن مفهوم الحريةِ نفسه ابتداءً، والمسافات المُقنّنة فيه، بين الذاتي والموضوعي، وفقًا للشرع.
أما عن التناقض الحادث في المفهوم المغلوط نفسه للحرية، وهو أن كل إنسان حرٌّ بشكلٍ مُطلق، فهو في تطبيقه حتى تشوبه العنصرية بالصورةِ التي تخفى عن العيان. فإن خلخل أحدُهم ثوابت الناسِ قيل: "هو حر، دعه وشأنه، وكفاكم رجعية". وإن أراد آخر تثبيتها قالوا: "تخلُّف -وأيضًا- كفاكم رجعية". فما معيار الرجعية هنا؟ أم أن الحرية المتحرّرة من الثوابت الضابطة تقضي، حقًا، حسب هواها لا حسب ما تتحاكم إليه من حرية الإطلاق في كل شيء.
هذا قد يكون مفهومًا لو أعلن أهل هذه الحرية (المزعومة) مبدأهم من البداية، لكن أن تناور باسم الحرية وهي في الأساس حرية الخلخلة ومحاربة التثبيت، فذاك أمرٌ لا خلاق له.
والحاصل في النهاية أن الحرية كمفهوم تخضع لما تخضع له جُلُّ المفاهيم من تباين في الدلالات بين منظومةٍ فكريةٍ وأخرى، ولكنّها في المُطلق تتلخّص في حرية الخاص بألا يتعدّى عليك غيرُك في أمرٍ يخصّك، تمامًا كما في حرية العام بألّا تتعدّى أنت على مُقدّسات الناسِ (التشريع الرباني) أو تخرق مجالهم العام بما لا يقبلونه أو يقرّه منهجهم الثابت (دينهم المعصوم)، وليس ذاك بعجيبٍ أو مُستغرَبٍ في بدهيات البشر، إذ أن المُطلق دائمًا يحكم النسبي، والثابت يُخضِع المُتغيّر لسلطته.