هل درست الكيمياء في يوم؟ ربما نعم، وربما لم تفعل، لكنّك في الحالين سمعت عن سبيكة الذهب، إن لم يسعفك الحظ بما يكفي لامتلاكها. حسنًا، إليك هذا السر المشهور: هذه السبيكة تُصنَع بخليط -متباين النسبة- من الذهب والنحاس. هل تعرف السبب؟ الذهب، لأنه الذهب، هذه بسيطة، هو من يعطي القيمة في الأصل، بينما النحاس يعطي الخليط تماسكه المطلوب ليسهل تشكيله وتكوينه فيما بعد. هذه الثنائية المتفاعلة هي ما يعطينا هذا المنتج عالي القيمة، متماسك القوام، فإذا فقد أحدهما فقد أحد الصفتين.
في كتابه (الإسلام بين الشرق والغرب)، عمد بيجوفيتش إلى منهجية هذه السبيكة في النظر إلى الإسلام، ذلك الدين المتجانس، المتفاعل بين قطبين: قطب المادة وقطب الروح. ثم تدرج في هذه الثنائية حتى بلغ عبادات الإسلام، ففي كل عبادة وفريضة تجلٍ لهذه الثنائية داخلها، فالصلاة صلة روحية بالله وفي الوقت نفسه تحمِل دلالة تنظيمية للمجتمع في حركاتها وجماعة المصلين، والزكاة تزكية للروح وتكافل اجتماعي وتحييد للصراع الطبقي، والحج عبادة خالصة كما نعلم، ولكنها حركة اجتماعية واسعة يلتئم فيها شمل المسلمين من كل البقاع وتوحدهم حول هدف واحد.
اقرأ أيضاً: تقرير مصانع الخياطة بغزة تواصل حياكة ملابس العيد أملًا في تعويض خسائرها السابقة
وفي هذا السياق يمكننا النظر إلى الصيام وما يليه من فرحة العيد، فالصيام هو الشريعة المُهذِّبة للروح بالامتناع عن شهواتها، ولكنه في الوقت نفسه شعيرة مجتمعية يتشاركها المجتمع المسلم ويحترمها الجميع، وتمثل له من الترابط المعنوي والمادي بين أفراده الشيء الكثير. ثم يأتي العيد كتجلٍ آخر لهذه الثنائية، تلك الفرحة التي تشمل جانبي الروح والمادة، فهي فرحة ذاتية بانتهاء العبادة التي نرجو من الله قبولها، وفرحة مجتمعية بالانتماء لجماعة المسلمين. هي فرحة المرء بأيام عيد ترفع عنه تكليف الصيام، وفرحة الأداء والاجتهاد، فتكون فرحة العبد على قدر إحسانه وطاعته في رمضان.
في تكبيرات العيد أيضًا مشهدٌ من مشاهد الثنائية تلك؛ حين يتلاقى ثواب الذكر الخاص بين العبد وربه، مع سعادة التآزر بين المسلمين في الفرحة والتهنئة والسعادة التي تتشاركها البيوت. تلك الفرحة التي تعبّدنا الله بها، فلا تفرح إلا لتؤجر، ثم تؤجر فتفرح، فأنت بين فرحتي العيد وثواب فرحته، وبين فرحة التوفيق في عبادتك وفرحة الانتماء للمسلمين.
ولأنه "هو أضحك وأبكى"، ولأن لكل مقام مقال، كان إظهار الفرح في موقعه دليلًا على الإيمان بالله الذي يُضحِك عباده ويسرّهم، وكان جعل العيد للمرثيات، الخاصة والعامة، ممارسةً للفعل في غير مكانه، لا لأنه يُشعِر الناس بالحزن في وقت فرح فقط، لكن لأنه يحرمهم -كذلك- مُتَنَفّسهم الذي يحتاجونه لممارسة الحياة، يحرمهم الفرحة التي تتقوى بها القلوب على الأحزان والمُرهِقات.
فإن كانت المعضلات لا يحلها الوجوم والحزن، فإنه يستعان على حلها بالأمل والسرور، فما بين الشعورين مسافة في الأثر، فالأول مُقعِد محبِط، والثاني أدعى للنشاط والخفة، فيكون الفرح عبادة تفضي إلى عبادات أكبر، إن أحسن المرء توظيفها، بينما يكون الهم والحزن دافعًا للإحباط والتخلي وقد استعاذ منه النبي -صلى الله عليه وسلم- في المطلق، فكيف به في أيام عيد؟!
غير أن الفرح لا يعني الانسلال من قواعد المباح والحرام، ولكنّه مساحة وهبها الله عباده ليصفى القلب وتسعد الجوارح وتتوطد الصلة بين المسلمين، ففيه شكر على نعمة الصيام، وفيه تعاون على البر بإخراج الزكاة وتهنئة المؤمنين، ناهيك عن الأثر النفسي للفرح، مع كل ما ذكرناه؛ لنجد أننا متعبدون بفرحنا، لذاته، ثم لما يجلبه علينا من الخير، ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ﴾.