فقدان مرسمها ومكتبتها وبيتها جعلها تشعر بأنَّ "الحرب لا تكتفي بأخذ الحاضر، بل تمتدُّ لتسلب المستقبل أيضًا"، ورغم كلِّ ذلك لم تدمِّر الحرب الرُّوح الَّتي كانت تحرُّك فنِّها ولم تكسر ريشتها.
من منطلق إيمانها أنَّ الفنَّ وسيلةً للتَّعبير عن الألم، والصُّمود أمام القهر، ولتوثيق يوميَّات الحياة وسط الخراب، وأنَّ الحياة أكبر من الحرب، و"أنَّ روح الإنسان لا يمكن أن تهزم"، امتشقت رفيدة سحويل ريشتها وأشهرتها في وجه الموت والقتل.
وافتتحت سحويل مؤخَّرًا معرضها "الجدار غير الأخير" واختارت ساحة مستشفى شهداء الأقصى الَّذي لا يتوقَّف عن استقبال جثامين الشُّهداء، ولا تنتهي فيه مراسم التَّشييع ونظرات الوداع الأخيرة، لعرض رسوماتها ونقلها للعالم توثَّق الحدث بلا صوت وبلغة يفهمها كلُّ العالم، تقاوم بفنِّها الموت، معبِّرةً عن آهات ذوي الشُّهداء، وصرخات المجروحين من الحرب، في لحظة عبَّرت فيها الرُّسوم عن المشهد الحيِّ بالمشفى.
بداخل خيمتها بدير البلح تحاول خلق مساحة للإبداع، رغم تدمير مرسمهما وبيتها، تجسِّد مشاهد عاشتها بنفسها، فروت رسومات رفيدة قصصًا وحكايات نسجتها من رحم الألم والفقد والموت، بالألوان المائيَّة تتداخل خطوطها وتنسج حكايتها، تركِّز على عمق الرِّسالة الَّتي تشبه فنَّ الكاريكاتير.
في إحدى الرسومات المعروضة يتكدس مجموعة ركاب على عربة يجرها حيوان، تتحدث الرسمة عن أزمة المواصلات بسبب منع الوقود، وفي رسمة أخرى يسير عشرات الأشخاص في طريق ترابي يحملون مقتنيات وحقائب، بعضهم يحمل أطفالهم ويجرون عربات صغيرة تروي معاناة النزوح، وفي رسمة ثالثة يجلس زوجان داخل خيمة يتوجه قرص الشمس من الأعلى ويتصبب الزوجان من العرق.
فجسدت برسوماتها مشاهد القتل والدمار والنزوح، وما سببته الحرب من معاناة يومية في الحصول على الطعام ومياه الشرب، وصعوبة النقل والمواصلات، الحياة الخيام، تجريف آليات الاحتلال للأراضي، وقتل الأطفال الرضع، وحرمان الأطفال من اللعب، مشاهد التشييع التي لا تتوقف، مجازر الاحتلال بحق العائلات، تتغير معالم المدينة، مشاهد الجثامين، كلها مشاهد لم تغب عن ريشتها.
ورفيدة سحويل، فنانة بصرية متخصصة في انتاج الفيديو إرت (أفلام قصيرة يتم انتاجها لمناقشة قضايا بمختلف أنواعها) وهذا النوع "السهل الممتنع" من الفن، وهي حاصلة على بكالوريوس فنون تشكيلية من جامعة الأقصى ودبلوم عالي تربوي من الجامعة نفسها وشهادة العلاج عن طريق الفن من جامعة إربد في الأردن.
هوية لن تُمحى
بينما يركز الاحتلال على محو الحياة والثقافة، فإن استمرارها في الفن يثبت أن الحياة ما زالت مستمرة، وأن الهوية الفلسطينية لن تُمحى، فتقول لـ "فلسطين أون لاين": "الإبداع وسط الخراب رسالة بأن الإنسان يستطيع تجاوز الدمار بحلمه وروحه، ولهذا جاء معرضي "الجدار غير الأخير" والذي اخترت عرضه في مستشفى شهداء الأقصى وعرض آخر في وسط مدينة دير البلح ، إصرارا منى بتحويل كل مكان في قطاع غزة الى منبر ثقافي في ظل استهداف جميع المؤسسات الثقافية والأماكن الاثرية".
"الرسم أو التلوين خلال الحرب يوثق ما أعيشه من معاناة وقصص يومية، لتبقى شاهدة على ما حدث للأجيال القادمة، لأن الفن هو أداة صادقة لنقل الواقع كما هو، دون تحريف أو تلاعب" وتدرك سحويل كذلك أن الفن لغة تخاطب فيها أي إنسان في العالم، وهي قادرة على تحريك مشاعر الآخرين خارج غزة، وإيصال المعاناة بطريقة أعمق وأكثر تأثيرًا.
وفي وقت تجعل الحرب كل شيء يبدو ميكانيكيًا، مليئًا بالدمار والخوف، يعيد الفن سحويل إلى الجوهر الإنساني: " يذكرني أني لست برمجة قائمة على كوني ضحية للحرب، بل إنسانة قادرة على التعبير والتغيير، وأنه شكل من أشكال الأمل، أقول للعالم: الحياة تستحق أن تُعاش، واستمراري في الرسم يذكر العالم أن غزة مليئة بالحياة وأن روح الإنسان لا تهزم رغم محاولات الاحتلال طمسها".
وفي ازدحام مهام يومية أمامها لا تجد إلا وقتًا محدودًا للرسم، لأن ذلك يتعلق بحرارة الجو، فهي تبحث عن الرسم بحرارة منخفضة لا تجعل خيمتها فرنًا يؤثر على تركيزها، وقبل مغيب الشمس وغرقها بالظلام الدامس مع عدم توفر إضاءة سوى وميض الصواريخ الإسرائيلية.
ونظمت سحويل ستة معارض فردية خامسها جرى استهدافه وفقدانه في بداية حرب الإبادة، وسادسها جسد الحرب وحمل اسم "الجدار غير الأخير"، حصلت على أربع جوائز بمجالات الفنون البصرية، واللوحات التصويرية والأعمال الإنشائية.
فشاركت بأول معرض فني جماعي وهي بمعر لا يتجاوز 17 عامًا، وعملت كمحاضرة للفنون البصرية في عدة كليات في القطاع، وتعمل في التدريس وتدريب الفنون منذ 17 عاما، وتعمل على انتاج "الكومكس" (وهي قصة مصورة تروحي أحداثا متتابعة) وكان آخرها سلسلة بعنوان "كوكب غزة" لا زال قيد الانتاج.
ثلاثية الفقد
تمتلئ كلماتها بالوجع الذي تعيشه بعد فقدان أقاربها ومنزلها ومكتبتها ومرسمها، تردف "أصوات الأصدقاء والأقارب كانت تمنحي دفئًا وأمانًا وسط الفوضى، فلم يكونوا فقط قريبين بالدم بل كانوا جزءًا من ذاكرتي، أما منزلي فكل جدار فيه يحمل جزءًا من قصتي، زاوية الرسم التي كنت أستريح فيها، ونافذة كنت أطل منها على العالم رغم صغرها، وحينما قصف شعرت ليس فقط بفقدان المأوى بل فقدان جذوري، وكأنَّ الحرب اقتلعتني من أرضي الصغيرة وتركتني معلقة في العدم".
وأضاف فقدان المرسم والمكتبة بداخلها طبقة عميقة من الألم "كلاهما لم يكن مجرد مكان أو مساحة، بل كانا جزءًا أساسيًا من هويتي، ومصدرًا للإلهام والراحة، وأداة لخلق عالمي الخاص وسط هذا الخراب".
عن فقدان مرسمها، تجيب بمرارة: "إنتاجي الفني كان شرايين ممتدة لروحي، لكل لحظة قضيتها أُلوّن واقعنا الصعب بألوان الأمل والمقاومة. حين ضاع إنتاجي، شعرت أن جزءًا مني قُتل مع اللوحات التي كانت تحمل قصصي وصوتي. كأنني فقدت كلماتي التي كنت أخاطب بها العالم، فقدت قدرتي على قول "أنا هنا" وسط هذا الخراب.
أما مكتبتها التي كانت تضم ألف كتاب، ولها ارتباط بثقافتها، فكل عنوان له قصة في اقتنائه ونصوص عالقة بذاكرتها، أرفدتها بمخزون معرفي كبير، لم تتخيل أن كل تلك الكتب ستحترق وتتقلب في النيران وتدفن داخل بيتها، وذكرياتها.
فلم تكن المكتبة مجرد رفوف تحمل كتبًا؛ تحكي عن وجعها المسلوب هنا: "كانت المكتبة نوافذة إلى العالم خارج الحصار، وجسري إلى عوالم فكرية وروحية أوسع من حدود غزة الضيقة. كل كتاب كان يحمل معه فكرة، رحلة، أو حتى عزاءًا في لحظات الانكسار. فقدان مكتبتي أشبه بفقدان معلم وصديق؛ كنت أجد في الكتب إجابات عن تساؤلاتي، وحافزًا لمواصلة البحث وسط الألم والضياع".
كل عنوان في مكتبتها كان يحمل قصة شخصية، تضم كتابًا ألهمها لرسم لوحة، وآخر علمها أن ترى الحرب بمنظور فلسفي، وآخر أهداها شعورًا بالسلام وسط هذا الجنون. عندما رحلت المكتبة مع القصف، (تردف): "شعرت وكأن الحرب حرمتني من صوتي الداخلي، ومن كل ما كنت أتمسك به كمرجع للبقاء قويًا".
وسيلة للبقاء
تعتبر سحويل، أن الفن وسيلة للبقاء النفسي وسط الحرب، يساعدها على التعامل مع الخوف والصدمة والحزن، وهو طريقة للتعبير عن مشاعرها الداخلية، وترتيب الفوضى التي تعيشها داخليا وخارجيا، ووسيلة للتعافي الذاتي والملاذ للتفريغ من ضغوطات الإبادة القاتلة، وتؤكد: "الفن عمل مقاوم ورسالتي للعالم: هو مقاومتي الأولى وانتصاري الأخير، فالفن يمنح صوتا لمن لا يستطيع التحدث".
وترى أن أعمالها "شهادة حية على ما حدث خلال حرب الإبادة وتوثيق للحياة تحت القصف والنزوح، وأنها أرشيفٌ بصري يحكي قصة حقبة زمنية يعيشها الشعب الفلسطيني، و رسالة عميقة للخارج لنقل الحدث بصورة صادقة، ورسالة إنسانية عميقة عن الألم والصمود والأمل، تعكس الرسومات حالة الانتهاك والإبادة، تتحدث عن هوية الشعب الفلسطيني وصموده.
بعيدًا عن الإحصائية التي جعلت الشهداء مجرد أرقام والمجازر عناوين أخبار متسارعة، يتوقف الفن ليجسد القصة، ويرسم صورة للقتل بدمعة طفلٍ ناج، أو بكاء امرأة بين جثامين متراصة، فيلامس الحدث القلوب.
وتواجه سحويل صعوبات عديدة تحد من قدرتها المستمرة على الرسم، نتيجة شح المواد الفنية وصعوبة الحصول على أدوات الرسم مثل الألوان، الأوراق، وريش الرسم، فضلا عن الأسعار الباهظة لما هو متوفر، وباتت قرطاسيتها على وشك النفاد، وانقطاع التيار الكهربائي واحتياجها المستمر للكهرباء في انتاج "الفيديو آرت"، بالتالي تحرم من الاستفادة من فترة المساء، والاضطراب النفسي بسبب القصف والانفجارات، والتشرد والنزوح مما اضطرها لممارسة الرسم في ظروف غير ملائمة.
ويواجه الفنانون قيودا على مواقع التواصل الاجتماعي، بسبب الحصار الرقمي والسياسي ما يجعل سحويل تتلقى تحذيرات من إدارة "فيسبوك، فضلا عن صعوبة نشر أعمالها في معارض دولية، وضعف الانترنت بالتالي تبقى منعزلة عن المنصات العالمية.