في كتابه "فطرية الإيمان"، يذكر عالم النفس والمتخصص في علم الإدراك الديني بجامعة أكسفورد "جستون باريت"، أن مساعدته "إيما بوردت" أجرت في إحدى دراساته مقابلة مع أم إنجليزية وطفلها البالغ من العمر خمسة أعوام. وفي الحين الذي صرّحت فيه الأم بإلحادها، كان الصغير يجيب عن أسئلة الدراسة بصورة ملأت والدته بالدهشة وهي تسمع ولدها ينفي عن الله احتمالية الموت، ويقر بحتمية وجوده كخالق للأشياء، ومن ثم قدرته على معرفة ما تحتويه علبة البسكويت المغلقة -حسب أسئلة التجربة-، إلى آخر الإجابات التي أبرزت اعتقاد الطفل الجازم بوجود الله، حتى أنه نطق صراحة بعد سؤال أمه "هل تؤمن بوجود إله؟" قائلًا: "حسنًا.. بالطبع يا أمي".
أرأيت هذا؟ عقل ينكر، وفطرة تجيب، فأيهما أصدق؟
في هذا السياق، يمكننا إلقاء نظرة على كتاب "سعود الشهري" المعنون بـ"ثلاث رسائل في الإلحاد والعلم والإيمان"، لنجده يناقش دلالة الفطرة قائلًا "أن دليل الفطرة، وإن لم يكن عقليًا، يأخذ صورة من صور الاستدلال العقلي المتنوعة، كالسبر والتقسيم وقياس الأولى (…) إلا أن المعرفة الفطرية هي الأصل والأساس للأدلة العقلية"، لأنها "تتناول العلوم البدهية المغروزة في كل نفس، التي لا تفتقر إلى استدلال، بل يعود إليها كل استدلال، وهي محل اتفاق بين جميع العقلاء"، مثل عدم اجتماع النقيضين، واحتواء الكل للجزء، وأن الحادث لا بد له من محدث، إلخ.
ولتعريف هذا النمط من الفطرة، يخبرنا "باريت" نقلًا عن الفيلسوف "روبرت ماكويلي" تفريقه بين نوعين من المعرفة الفطرية لدى الطفل: الفطرية النضجية، والفطرية التدريبية. أما الأولى فهي المعارف والمهارات التي يكتسبها الطفل بمجرد النمو، ما يعني أن بذورها كامنة فيه ولا تحتاج ثمارها إلى أكثر من الأيام، والحفاظ على تربتها الفطرية بعيدًا عن الملوثات، لتنتهي إلى النتيجة المطلوبة. تمامًا كالمشي وإدراك الأشياء ومعرفة ما يمكن حمله منها، وهكذا.
وأما الثانية فهي مجموع المعارف والمهارات التي يكتسبها الطفل بالتدرب عليها أو تعلمها من غيره، إلا أنها تقع موقع الفطرة لسهولة ممارستها دون أي تعقيدات، كالقراءة بيسر تلقائي -مثلًا- بعد تعلم الحروف.
من هذا الباب، رأى "باريت" أن كثيرًا من الأفكار والممارسات الدينية الأساسية تقع في نطاق الفطرة الطبيعية، في حين أنها عند البالغين تُصنّف ضمن الفطرة ذات الخبرات، وعليه يمكننا القول إن الإيمان بالإله أمر فطري؛ لاحتواء النفس على استعدادات فطرية تمضي في الظروف الطبيعية للعالم دون أي معوقات، لتتبلور بعد خبرة معرفية إلى إيمان يكسو أساسًا متينًا من الفطرة.
ولأكثر دقة، تقودنا دراسة القبعة والجرس لدى علماء النفس التطوريين لرصد إدراك الأطفال، بداية من عمر ستة أشهر، لقدرة العوامل الفاعلة على تحريك/صنع الأشياء دون تماس فيزيائي مع العوامل المنفعلة، بمعنى أنك لو وضعت قبعة ذات جرس على رأسك، فإن الطفل سيختار إحدى طريقتين لتفعيل عمل الجرس: إما أن يطلب منك تحريك رأسك، وإما أنه سيهزّ كتفيك للحصول على النتيجة ذاتها. في حين أننا لو وضعنا القبعة على كرة، فإن الطفل سيختار طريقة واحدة لسماع صوت الجرس: تحريك الكرة، واعيًا إلى أن مطالبتها بالاهتزاز ستكون ضربًا من العبث، أي إنه سيميز بين (من) هذا و(ما) هذا.
من هنا، يدرك الأطفال أن العوامل الفاعلة قادرة على تحريك نفسها وتحريك غيرها، إضافة إلى اعتقادهم في غائية أفعالها، أي إنها تفعل الأشياء لهدف مقصود.
بهذه التجربة يستنتج "باريت" أن الأطفال، في سن مبكرة، لا يكونوا قادرين فقط على تمييز العوامل الفاعلة وغائيتها، بل إنهم يعتبرون العلامات الملموسة -الصوت والضوء المتزامنين للكرة- دليلًا على وجود شيء يستدعي الاهتمام، ما يعني أن العامل الفاعل لا ينحصر في البشر المرئيين فقط، وأن ثمَّ دلالات تنبّهنا لوجود فاعل غير مرئي قادر على صنع الأحداث، قد تبدو هذه الخاصية الفطرية كافية للتفكير في الإله، بالتأمل في الخلق، غير أن ميزة أخرى تجعل من الإيمان أكثر قربًا من فطرتنا، وهي إصرارنا -منذ الطفولة- على اكتشاف الغاية والتصميم في العالم المحيط.