لا توجد نية أميركية لإحياء "مفاوضات سلام" بين الفلسطينيين وإسرائيل، لأن الأولوية الأميركية هي لدمج (إسرائيل)، وتثبيت هيمنتها من خلال توسيع الاتفاقيات الإبراهيمية، وتدشين دورها في هيمنة رسمية أميركية – إسرائيلية أمنية اقتصادية في المنطقة. وهذا ليس جديداً، لكن المهم أن هذا هو عنوان فهم سياق كل التحرّكات الأميركية السابقة والحالية واللاحقة، من دون وهم أو أوهام.
عدم إعطاء الأولوية للدفع بمفاوضات إسرائيلية – فلسطينية، وبما تسمى "عملية السلام"، يصب في صالح القضية الفلسطينية، إذ إن استئنافاً لعملية "سلام"، هو كما كان دائماً ليس أكثر من توفير مظلة للجرائم الصهيونية، لكن أميركا ليست معنيةً بمصلحة الشعب الفلسطيني، بل الرفض القاطع لرئيس الحكومة الإسرائيلي، نفتالي بنيت، للجلوس مع الفلسطينيين، ولواشنطن مخطّطها المُلِح والمعلن، وهو مأسسة تحالف أمني إسرائيلي عربي ضروري لإضعاف النفوذ الإيراني، والأهم تدعيم مواجهة نفوذ الصين في العالم. وفي المحصلة إنهاء القضية الفلسطينية.
شهدنا الأسبوع الماضي مؤشّرات وخطوات مهمة، قد يكون أهمها بدء تطبيق قرار الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، نقل (إسرائيل) من عضوية حلفاء القيادة العسكرية الأميركية في أوروبا إلى القيادة المركزية للجيش الأميركي (السينتكوم) في الشرق الأوسط، وهو ما تناولته الكاتبة في مقال في حينها، ودعوة وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، الدول العربية إلى الانضمام إلى اتفاقية التطبيع التحالفي مع الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، إذ إنها الخطوة الأهم برأي الإدارة الحالية لتطويع تدريجي للموقف الفلسطيني لقبول "اتفاقية سلام نهائية"، وفقاً للشروط الصهيونية.
جاءت التصريحات الأكثر أهمية على لسان المتحدث باسم الخارجية الأميركية، نيد برايس، الذي قال بصراحة إن واشنطن تعتقد أن الاتفاقيات لم تفشل، بل تؤدّي إلى تعميق الروابط الاقتصادية بين الدول العربية وإسرائيل، وبالتالي العلاقات الشعبية. ولكن في موازاة اتباع سياسات تجسير الهوة والتقريب بين الإسرائيليين والفلسطينيين، موضحاً، في ردّه على سؤالٍ من مراسل صحيفة "القدس" سعيد عريقات، أن "هدفنا التأكد من أن الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء قادرون على تجربة مستويات متساوية من الأمن والحرية، والأهم من ذلك، الكرامة. ويمكننا القيام بالأمرين في آن واحد".
ويلخّص تصريح برايس، بوضوح، رؤية الإدارة الأميركية، فعلى الرغم من استعماله تعبيرات منمّقة، مثل الأمن والحرية والكرامة للطرفين، فهو يتحدّث عن التزام الجانب الفلسطيني بالتنسيق الأمني مع (إسرائيل)، بمقابل لا يخلو من الابتزاز، يشمل تسهيلاتٍ على الحواجز العسكرية وحرية الحركة، تبقى رهناً بالشروط الأمنية الإسرائيلية، فيما تستمرّ عمليات تطبيع اقتصادية وسياسة وثقافية وأمنية تزيد من عزلة الفلسطينيين.
لكن أهم أسلحة إدارة بايدن العودة إلى خديعة السلام "الاقتصادي" الذي كان أول من بشّر به في منتصف الثمانينيات وزير الخارجية الأميركي في حينه، جورج شولتز، وجعل منها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، شمعون بيريز، فلسفة "سلام مزيف" لإعطاء غطاء "أخلاقي" لاستمرار الحرب الصهيونية على الشعب الفلسطيني. ولكن أدوات "السلام الاقتصادي" سوف تعتمد، هذه المرّة، على تمويل دول خارجية، تحت شعار مشاريع قد توفر فرص عمل، لكنها تهدف إلى توسيع طبقة المستفيدين من استمرار الاحتلال، على أمل كسر شكيمة الشعب الفلسطيني.
واضح أن الإدارة الأميركية لم تفهم ولا تريد أن تفهم معاني هبّة أيار والهبّات المستمرّة، ولا مغزى اختراق الأسرى الستة المعتقل الأمني الإسرائيلي، ولا تعي تأثيره العميق على الروح المعنوية الفلسطينية، بل والعربية، فهي لم تكن عملية تسجّل عالمياً في حكايات اختراق السجون الأمنية، بل كانت وسوف تبقى، في الوعي الجمعي الفلسطيني، حكاية اختراق احتلال وترسانة عسكرية. وحكاية وصول الأسرى الفارّين إلى مروج فلسطين التاريخية هي إحياء أمل بحق العودة، وهو أمل يمثل تصميماً لا تستطيع (إسرائيل) وأميركا نزعه من أرواح الفلسطينيين وعقولهم، بخطط اقتصادية، لم تنجح في إعطاء الأمل لفقراء أميركا، فكيف تخمد الثورة في روح شعب يقاوم المحتل؟
لا يهدف التأكيد هنا على شجاعة الشعب الفلسطيني واستمراره في المقاومة إلى التقليل من خطورة الخطوات الأميركية، فالمسألة ليست في نجاح المخطط بهزيمة الفلسطينيين، بل في أن هذه السياسات، النابعة من عقلية استعمارية بليدة المشاعر، ستجلب ويلاتٍ على الشعب المقاوم، خصوصاً في اتساع صفاقة تصريحات قيادات بعض الدول المطبّعة لتأييد جرائم (إسرائيل) وإنكار معاناة الشعب الفلسطيني وحقوقه ومقاومته، خصوصاً أن الإدارة الأميركية تعمل بنفس طويل المدى، فهي تقارن كل تغيير في أي حي في العالم العربي، أو تصرح من أي شخص معروف أو غير معروف، بحقيقة أن أحداً لم يكن يجرؤ، سابقاً، على محاولة "السخرية" من القضية الفلسطينية سابقاً.
يجب ألا ندع التصريحات أو الكتابات التطبيعية والمتصهينة على وسائل التواصل الاجتماعي تُحبطنا، لكنها مؤشّرات خطيرة يجب مواجهتها، فالخطة الأميركية تعتمد أكثر مما يتوقع كثيرون منا على تأثير المطبّعين على تشويه الوعي العربي، لأن التطبيع والاتفاقيات التحالفية، كما اعترف المتحدث باسم وارزة الخارجية الأميركية، يتطلعان إلى توسيع العلاقات بين (إسرائيل) والشعوب العربية وتعميقها، لأن هؤلاء المطبعين أدوات تُشهر في وجوه الأبطال الفلسطينيين، فالمعركة الأميركية - الإسرائيلية ضد الفلسطينيين تتطلّب إشهار أدوات غير أخلاقية تمس المقاوم الذي يفضح، بشجاعته وثورته، الواقع غير الأخلاقي والإنساني لوجود المؤسّسة السياسية والعسكرية الصهيونية. فلا يمكن فهم أقوال الروائي المصري يوسف زيدان إلا في سياق أهمية أدوات خدم الاستعمار، وفي سياق "دور"، فسخريته المقيتة من عملية هرب الأسرى البطولية، لم تهدف إلى السخرية فحسب، بل إلى إحباط الشعب العربي ودبّ اليأس في قدرة الفلسطيني على هزيمة المشروع الصهيوني، وقدرة الشعوب العربية في رفض الاستبداد والهيمنة الإسرائيلية الأميركية. واعتذاره اللاحق دليل على أن مواجهة هذه الأصوات هي أيضاً فعل مقاوم، فالسخرية من المقاومة هي محاولة لتجريمها، ومحاولة لمنع تحوّل المقاومين والأبطال الستة إلى ملهمين للشباب الفلسطيني والعربي، بل في كل العالم.
دراسة السياسة الأميركية وتشريحها لا يفيدان من دون كشف الأدوات والحثّ على ضرورة مواجهتها في كل مكان. تحاول واشنطن تدجين الشعوب العربية، لتأمين نصر صهيوني ساحق. لذا تحارب حركات مقاطعة (إسرائيل)، وفي مقدمتها "بي دي إس" والتي تترجم عملياً في البلاد العربية بمواجهة المشاريع الاقتصادية الاستراتيجية. تفهم واشنطن تماماً التطبيع الاقتصادي على أنه تكبيل لإرادة الدول بل والشعوب أيضا. وفي هذه المرحلة، هذه أهم ركيزة للسياسة الأميركية في المنطقة. لذلك، التعاطف والتضامن الشعبي مع انتفاضة أيار وأهل القدس وبيتا وكل فلسطين لا يكفيان، فمن يريد أن يناصر الأبطال الستة، الذين يعلموننا دروساً في الشجاعة والقيادة في كل لحظة، واجبه أن يشارك في حملات المقاطعة، أو لا يدّعي أنه مسكون بالحزن، ولا يستطيع فعل شيء، ولا نصبح جميعنا أدوات لتنفيذ الخطة الأميركية.