تطالعنا كل مدة مقالات وتصريحات أميركية، وأحيانًا إسرائيلية، عن ضرورة دعم السلطة الفلسطينية والحرص على استعادة شرعيّتها المتآكلة أو المفقودة لدى الشعب الفلسطيني. لا علاقة لمصدر القلق على "شرعية" السلطة بتمثيل القضية الفلسطينية، بل بادّعاء زائف بشأن "شرعية" تُمكّن السلطة من القضاء على المقاومة تحت شعار "محاربة الإرهابيين".
ولكن الحقيقة أن (إسرائيل) ليست راضية عن فشل السلطة في أداء "الدور الوظيفي" المنشود، ودعوات دعم السلطة هي مقدّمة لفرض رئيس وزراء فلسطيني "إصلاحي"، كما كشف المسؤول الأميركي السابق، دينيس روس، في مقال له على موقع "مركز واشنطن لدراسات الشرق الأدنى" (الصهيوني)، إذ إن المطلوب مسؤول فلسطيني يكافح الفساد من جهة، ويكون أكثر مهادنة لواشنطن، ليحافظ على استمرار السلطة، ويدفع إلى قبول شروطٍ أميركيةٍ، أهمها وقف رواتب الأسرى وعائلات الشهداء من جهة أخرى.
يمثل موقف روس، المقرّب من الخارجية الأميركية، كثيرين من "الليبراليين الصهاينة" في أميركا، وإن كان هو نفسه ليس ليبراليًا، مثل الكاتب توماس فريدمان وآخرين ممن يناهضون رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو واليمين، وهم أقرب إلى موقف إدارة الرئيس جو بايدن، فهم يرون أن المجازر التي يرتكبها المستوطنون الصهاينة، والتسارع في توسيع المستوطنات، يضرّان بصورة (إسرائيل)، ويعمّقان جذور الغضب الفلسطيني، وبالتالي تقوّض "شرعية" السلطة الفلسطينية.
اقرأ أيضًا: "ياعيب الشّوم"… ماذا يعني منع سُلطة الاحتلال "الكابينت" الانهيار للسلطة الفلسطينية؟
اقرأ أيضًا: ما وراء الحماس الإسرائيلي لبقاء السلطة الفلسطينية؟
ولذا، فتدعيم "شرعية السلطة" ضروري، إذ إن واشنطن بحاجة إلى توقيع جسم فلسطيني رسمي، يقبل في اللحظة الملائمة، بالأمر الواقع الذي تفرضه قوة البطش الإسرائيلية.
الخلط المتعمّد لمفهوم الشرعية هو اعتقاد أو وهم بأن كسب تأييد شعبي للسلطة يؤدّي إلى تعاون الشعب الفلسطيني وسكوته على أي عمليةٍ أمنيةٍ لقوات السلطة، بالانقضاض على المجموعات المقاومة، ووفق هذا المنظور، تستطيع أميركا و(إسرائيل) تحقيق ذلك بتحسين الوضع المعيشي للفلسطينيين، أو على الأقل ضخّ الأموال لمشاريع استثمارية، خاصة تهدف إلى ربط فئات فلسطينية بالاقتصاد الإسرائيلي، وإبقاء نافذة الأمل للوصول إلى حلٍّ "يرضي الفلسطينيين والإسرائيليين"، فلا مكان لديهم لعدالةٍ أو حق.
أصحاب هذه المقولات هم في أغلبهم من الليبراليين الصهاينة، الذين خاب أملهم بسبب عدم قدرة السلطة أو تردّدها في قمع المجموعات المقاومة والسيطرة عليها، ويعتقدون أنه إحياء "أملٍ كاذبٍ لهدف، وإقامة دولة فلسطينية لا تملك من مقوّمات الدولة إلا الاسم، سيقوّي السلطة الفلسطينية ويعطيها شعبية وشرعية بين الفلسطينيين"، وهم أخطر من اليمين المتطرّف واليمين المتشدّد في (إسرائيل) وأميركا، الذي يدعو إلى استسلام فلسطيني بقوّة السلاح، وهو التيار الأصدق، إذ إن الليبراليين الصهاينة لا يعارضون المجازر كفكرة وممارسة، لكنهم يخشون من تأثيرها على مستقبل (إسرائيل) ومستقبل التطبيع العربي الإسرائيلي ليس أكثر.
كان دينيس روس الأكثر وضوحًا في شرح أهداف الدعوة إلى دعم السلطة الفلسطينية، منتقدًا دور المتطرّفين في الحكومة الإسرائيلية بتصعيد هجمات المستوطنين، وبالتالي، إضعاف السلطة، لكن هدفه من دعم السلطة هو تمكينها من السيطرة على الفلسطينيين، إذ إن "العمليات العسكرية" الإسرائيلية، وإن كان لا يعارضها، إلا أنها، في تقديره، ليست الحلّ الأمثل. وعليه، يجب مساعدة السلطة في إتقان "دورها الوظيفي"، ولا يرى في ذلك أي تناقضٍ بين مفهوم الشرعية و"الدور الوظيفي" الذي أفقدها الشرعية، إذ تغيب عنه حقيقة أن شرعية أي جسم فلسطيني تنبع من التزامه بمقاومة الاحتلال، وليس من "التنسيق الأمني" مع (إسرائيل)، فقد دعا روس في مقال، بمشاركة الفلسطيني المتصهين غيث العمري، إلى العمل لمنع انهيار السلطة، لأن انهيارها يهدد "الاتفاقيات الإبراهيمية"، والجهود الأميركية لضمّ السعودية، فتبعات انهيار السلطة تهدّد بعدم استقرار قد ينسف الاتفاقيات الإبراهيمية، أو على الأقل يجمّدها، وينسف الأمل الأميركي الصهيوني، بمعاهدة تطبيع تحالفية رسمية بين السعودية و(إسرائيل)، لتحقيق هدف واشنطن الإستراتيجي بدمج (إسرائيل) في المنطقة وإنهاء القضية الفلسطينية.
أهمية مقال روس في صراحته وفي تأثيره الشخصي، وهو العضو في "معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى" (الصهيوني)، على البيت الأبيض ووزارة الخارجية والكونغرس، فالحلول التي يقدّمها في مقالاته ليست مجرّد اقتراحات على الورق، لكنها تمثل خطًّا قويًا داخل الإدارة الأميركية، الذي يعتقد أن توفير فرص العمل للشباب الفلسطيني سيُبعدهم عن "العنف أو المقاومة"، وهو خطٌّ يتبنّاه مكتب الشؤون الفلسطينية، خاصة بعد استحداث منصب الممثل الأميركي الخاص بالشؤون الفلسطينية عام 2002، وتوجيه جل نشاطه إلى "الاهتمام بالشباب الفلسطينيين" من توفير منح دراسية، وإقامة نشاطاتٍ ترفيهيةٍ وتعليميةٍ في شتّى أنحاء الضفة الغربية.
التركيز على الشباب الذي ينادي به روس، ويمارسه فعليًا المبعوث الأميركي للشؤون الفلسطينية، هادي عمرو، لإبعادهم عن أي مجموعة مقاومة، قد ينجح إلى حدّ ما، إذ إننا نرى صورًا لشباب وشابات سعداء بالبعثات الدراسية، وفرص تطوير المواهب في مجالات شتّى، تدلّ على أن التحفظ على الموقف الأميركي السياسي في دعم (إسرائيل) لا يقف عائقًا أمام فرصةٍ في التعليم، لكن ذلك لا يعني قبول الاحتلال الإسرائيلي، غير أن المطلوب أميركيًا هو إبعاد الشباب عن الانضمام إلى المقاومة.
هنا، يجب التذكير أنه منذ اتفاقية أوسلو، نشأت طبقة مستفيدة من هذه التبعية، وتوسّعت بعد الانتفاضة الثانية، ففي عهد الرئيس الشهيد ياسر عرفات، بقيت هناك جذوة مقاومة مشتعلة، على الرغم من الاتفاقيات مع (إسرائيل)، سلك رئيس السلطة محمود عبّاس خطًا مهادنًا، تحت وهم إثبات "حسن السلوك" حتى يستحقّ الفلسطينيون دولة فلسطينية، وإن لم ينجح ذلك في منع هبّاتٍ، أهمها هبة أيار عام 2021، ونشوء المجموعات المقاومة، مثل: عرين الأسود، وكتيبة جنين التي أفقدت (إسرائيل) أعصابها، ما دفعها إلى تنفيذ أكبر عدوان عسكري ضد جنين، هو الأكثر توحّشًا منذ الانتفاضة الثانية، لكن العدوان العسكري، كما يعي دينيس روس، والليبراليون الصهاينة في واشنطن، لا يكفي لوأد المقاومة، لذا؛ أحد الحلول القديمة الجديدة، هي محاولة "تحقيق رفاه اقتصادي"، لا ينقذ الفلسطينيين من الاحتلال، لكنه يبني أملًا بخلاصٍ فردي، لدى شباب يعيش تحت غبن الاحتلال وقهره.
ما يقوم به هادي عمرو قد يكون أخطر في المدى الطويل من العمليات العدوانية العسكرية الإسرائيلية، وهذه ليست إدانة للشباب والشابّات الذين يرون فرصة في استمرار تعليمهم، بقدر ما هي وصف لابتزاز من دولة عظمى تدعم الاحتلال وتزوّده بالأسلحة التي تقتل الشباب، في حين تلعب دور الداعم لشباب فلسطين، والكرة الآن في ملعب السلطة الفلسطينية التي تقبل التنسيق الأمني، وسجنت صحفيًا موهوبًا مثل عقيل عواودة (قبل أن تفرج عنه أمس).. إذ تنسى، مثل الأنظمة العربية، أن مصدر الشرعية يأتي من شعوبها، لا من واشنطن.