دون التقليل من أهمية حماية المسجد الأقصى بصفته رمزا دينيا للمسلمين في العالم، فإن هذه الحماية واجب وطني وإنساني أيضا، وفي قلب معركة التحرّر الوطني الفلسطيني، وتهويد الأقصى يعني تهويد كل فلسطين. وليست لاقتحامات المستوطنين اليهود المتكرّرة للمسجد الأقصى بحماية جيش الاحتلال الإسرائيلي علاقة بحماية الديانة اليهودية، وإن كانت الحركة الصهيونية قد أقنعت المتشدّدين اليهود بذلك، وإنما تستهدف تدمير رمز ديني للمسلمين ورمز للهوية الفلسطينية وللحقوق الوطنية للفلسطينيين ببلادهم وتاريخهم ووجودهم.
لم يستطع علماء الآثار إثبات إصرار (إسرائيل) على ادّعاء أنّ ما يسمى "جبل الهيكل" المزعوم، يقع مباشرة تحت المسجد الأقصى، في حين تستمر الحفريات التي تهدّد المبنى نفسه، فلصورة الأقصى كاختزال للمدينة المقدّسة، وصورته مع كنيسة الجثمانية، بعدٌ رمزي يُقلق الإسرائيليين، فرمز القدس، من وجهة النظر الإسرائيلية، يجب أن يكون "هيكلاً يهودياً" له جذور في القدس، يثبت الرواية الصهيونية وادّعاء اليهود بحقهم في أرض فلسطين، كل فلسطين، من البحر المتوسط إلى نهر الأردن. لكنّ وجود الأقصى الشريف ينسف الرواية الصهيونية، ولذا جرى التركيز عليه، إضافة إلى هدفٍ آخر خطير؛ هو تحويل قضية فلسطين التحرّرية إلى صراع ديني، يجعل الإسلام والمسلمين تهديداً لـ(إسرائيل)، مستغلّة الاتجاهات الاستشراقية الاستعمارية في الغرب، ولكسب تأييد المسيحيين في العالم للدولة الصهيونية.
صحيحٌ أن (إسرائيل) لم تنجح في تدمير المسجد الأقصى، أو بثّ الفرقة بين المسيحيين والمسلمين في فلسطين، لكنها نجحت إعلامياً وفي الدوائر الرسمية الغربية في فرض تعريف المسجد الأقصى بأنه مكان "متنازع عليه". ولذا، تستعمل وكالات الأنباء مصطلح "المسجد الأقصى/ جبل الهيكل" المزعوم، في مسعى إلى تزييف واقع الاحتلال وادّعاء أنه تعبير "محايد وموضوعي" يعترف بالروايتين الفلسطينية والإسرائيلية على أساس أنّ باحة الأقصى "متنازعٌ عليها".
تستعمل الخارجية الأميركية تعبير "المسجد الأقصى/ جبل الهيكل" المزعوم في كل بياناتها وتصريحاتها، تجسيداً لانحيازها لـ(إسرائيل)، وفي ذلك أكبر تغطيةٍ على الاحتلال والمشروع الاحتلالي الصهيوني، فالأرض "متنازعٌ عليها" والقدس "متنازعٌ عليها"، والأقصى "متنازعٌ عليه"، والخليل "متنازعُ عليها"، وكذلك قبة راحيل في بيت لحم، والإدارة الأميركية تشهد بنفسها كيف توظف (إسرائيل) هذا المصطلح المزيّف لمصادرة الأراضي وتهجير أهلها وهدم البيوت، واقتحام المدن واستباحة المسجد الأقصى.
فلا فائدة ولا جدوى من إدانات الإدارات الغربية هجوم المستوطنين على المصلّين في الأقصى، وإدانة كلّ من المجرمَين العضوين في الحكومة الصهيونية، إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموترتش، اللذيْن تشكل عنصريّتهما الفجّة إحراجاً لواشنطن، وتتناسى الإدارة الأميركية ودوائر غربية كثيرة أنّ معظم المسؤولين الإسرائيليين، إن لم يكن جميعهم، يسمّون المسجد الأقصى بـ"جبل الهيكل" المزعوم. وبالتالي؛ الحكومات الصهيونية مشاركة، بشكل رسمي، في التحريض على استباحة باحة المسجد الأقصى، بالنسبة للإدارة الأميركية، فإن ما يقلقها هو اشتعال انتفاضة فلسطينية كرد فعل على اقتحام المستوطنين باحات الأقصى، وليس من باب الحرص على أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ولا على أرواح الفلسطينيين.
بل إن واشنطن والمراكز الأميركية والصهيونية في أميركا تعد ردود فعل العرب والمسلمين، حكومات وشعوباً، مؤشّراً على تأثير أي حدث في الأقصى على نسبة العداء لـ(إسرائيل)، وتحرص على ألّا يزيد منسوب هذا العداء، في عهد توسيع التطبيع العربي – الإسرائيلي الذي هو ركيزة أساسية للاستراتيجية الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية. ومن هنا، تخشى أن تتسبّب هذه الاقتحامات في تعطيل عملية التطبيع الشعبي بين (إسرائيل) والعالم العربي. وعليه؛ يساهم ضعف الرد العربي في تمكين التصعيد الإسرائيلي ضد الأقصى، وضد الشعب الفلسطيني، بحيث لا ترى الإدارة الأميركية ضرورة لممارسة ضغوط أو إجراءات عقابية ضد (إسرائيل). لذا؛ نرى الإدارة تضغط على الأردن والسلطة الفلسطينية "لتخفيف التصعيد في الأقصى" و"ضمان الهدوء"، وهي مصطلحاتٌ مهينة بقدر أنها استعمارية، فواشنطن تعتبر اعتكاف المصلين في المسجد الأقصى تصعيداً، وتريد من الأردن والسلطة منع المصلين الفلسطينيين منه، في مهزلةٍ رسمية تدين المجني عليه وتحمّله مسؤولية العدوان والاعتداء على المصلين جسدياً وربط أيديهم بعد أن تُجبرهم على التمدّد أرضاً أمام الكاميرات وعدسات التصوير، في عمليةٍ مشينة لتوجيه اللوم إلى الضحية.
لا يحقّ للأردن أو (إسرائيل) أو السلطة منع الاعتكاف، فبعد محاولة وزارة الأوقاف التابعة للدولة الأردنية حظر الاعتكاف، تراجعت الهيئة الدينية، وفهم الجميع، وحتى واشنطن، أنّ في ذلك تجاوزاً لكل الخطوط الحمر في حرية ممارسة الشعائر الدينية.
المشكلة أنّ الدول العربية (والسلطة الفلسطينية) لم تتعلم الدرس من قمة العقبة واجتماع شرم الشيخ، إضافة إلى أنه كان من الخطأ المشاركة في تلكما المهزلتين، لكنها كلها انتهت بتصعيد إسرائيلي أشد شراسة من قبل، وجميعنا نذكر أن مجزرة حوّارة ارتكبها المستوطنون بعد ساعاتٍ من لقاء العقبة، وتنصّلت الحكومة الإسرائيلية من تعهّداتها بكبح هجمات المستوطنين على المصلين في القدس، بل ما حدث كان العكس، إذ بدأ الجيش الإسرائيلي بالاعتداءات على المسلمين والمسيحيين في القدس، مع تزامن رمضان مع شعائر أعياد الفصح في كنيسة الجثمانية في القدس، في مشهدٍ سافرٍ لاستهداف الفلسطيني المسلم والمسيحي لمجرّد كونه فلسطينياً.
وإذا تحدّث مسؤول عربي، وأصرّ على احترام حرمة المسجد الأقصى، يصبح متهماً بالتطرّف، كما حدث مع وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، إذ دافع عن القدس والمسجد الأقصى في اتصالاته مع الإسرائيليين وغيرهم، فوصفه إسرائيليون، في تصريحات لموقع إكسيوس، بأنه "إيتمار بن غفير العربي"، وأنها معركة بين المتطرّفين العرب واليهود، وأصبح الصفدي الذي هو وزير خارجية دولة مرتبطة بمعاهدة "سلام" مع (إسرائيل) "شخصا متطرّفا"، في رسالة واضحة بأنّ (إسرائيل) لم تعد تأبه بأحد، ما دامت اتفاقيات التطبيع مستمرّة، ولا يوجد تهديد عربي واحد بتجميدها، ولا نقول وقفها أو إلغاءها.
أما المقاربة بين الصفدي وبن غفير، فهي أبشع من بشعة، خصوصاً أنّ (إسرائيل) تتحمّل بن غفير الذي وافقت على عصابة الميلشيا التابعة له، غير الخاضعة لقواعد الاشتباك التي يدّعي الجيش الإسرائيلي أنه يلتزم بها، أي أنها أكثر وحشيةً من الجيش. ورغم ذلك، ترفض تقبُّل أن يدافع مسؤول أردني عن حقّ الأردن برعاية المقدّسات في القدس، فلا تهمها حكومات مطبّعة أم غير مطبّعة، فالدفاع عن حق يضع مسؤولاً في خانةٍ أقرب إلى الإرهابيين، لكنّ إرهاب بن غفير مقبول، وأي مسؤول عربي يعارض إجراءات (إسرائيل)، ولو شفوياً، إرهابي مدان. وهذا درس لا تريد أن تتعلمه الدول العربية؛ فمن اتهم الصفدي لم يكن من أتباع بن غفير، وإنما من يدعو إلى الوسطية في (إسرائيل)، فهناك رواية ومشروع يجب تطبيقه ومتفق عليه عند "المتطرّفين" و"الوسطيين"، ووصلنا، كما أشرتُ مرّاتٍ في مقالات سابقة، إلى مرحلة يعتبرها الصهاينة نهائية تقترب من انتهاء تحقيق المشروع الكولونيالي الاستيطاني في فلسطين، فلم يعد هناك اعتبار لأحد، فـ(إسرائيل) لم تعد تستقوي بالدعم الأميركي فحسب، وإنما باتفاقيات التطبيع العربي المتتالية والتوسعية. ففي العرف الإسرائيلي؛ تصريحات المسؤولين مهمّة، بمعنى أن من غير المسموح أن تخرُج من إطار مفهوم "التسوية السلمية"، لكنها ليست مهمة لدفع أميركا إلى التوقّف عن دعمها الاستراتيجي لـ(إسرائيل)، لأنها تعرف أنها تصريحاتٌ لن ترتبط بأفعال أو تغيير سياسات، فليس هناك نفسٌ مقاوم حتى حيال حقوق الأنظمة نفسها، ويبقى الأقصى عرضة للتهويد، ولكن، تبقى مقاومة الفلسطينيين مستمرّة... وهي التي تُحدث فرقاً.