هي حقًّا هبَّة الكرامة، الكرامة الفردية والوطنية على حدٍّ سواء. هي كذلك، لأنها هدفت أساسًا إلى الدفاع عن الحق في المكان، تمامًا كما هدفت إلى الدفاع عن الهوية الوطنية الفلسطينية للمكان، سواء كان هذا المكان حي الشيخ جرَّاح أو حي بطن الهوى أو باب العمود أو باحات المسجد الأقصى في القدس، أو أيًّا من الأحياء الفلسطينية في المدن الساحلية المختلطة (اللد والرملة ويافا وحيفا وعكا)، أو قرية بيتا شمال الضفة الغربية لاحقًا. في كل من هذه المواقع وغيرها، يحتدم الصراع على الحقِّ في ملكية المكان، كما على هويته الوطنية الفلسطينية. وإذا كان المسجد الأقصى، كما الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل من قبل، عرضة للتقسيم الزماني والمكاني، فإن المواقع الأخرى المذكورة عرضةٌ لمصادرة حق الملكية وللتهويد أو الاستيطان. وبما أن الأمر كذلك، فليس من باب المصادفة أن يتصدّر المواجهة من الطرف الصهيوني المستوطنون واليهود الآخرون، المتطرّفون قوميًا ودينيًا، تمامًا كما ليس من باب المصادفة أن يتصدّر المواجهة من الطرف الفلسطيني شبّان القدس والمدن الساحلية المختلطة المذكورة وصباياها. أما المواجهة العسكرية التي بادرت إليها المقاومة الإسلامية في غزّة، على إنجازها اللافت، وكلفتها المادية والبشرية الباهظة، فقد هدفت إلى الإسناد والردع أساسًا. ولنترك المآرب الأخرى لتلك المواجهة العسكرية، إن وُجدت، جانبًا.
هبّة الكرامة في الشهر الماضي (مايو/ أيار) تقول لنا، نحن الفلسطينيين، وللعالم الأوسع المحيط بنا ما يأتي:
أولًا: إن الدفاع عن الحق في المكان وعن الهوية الوطنية للمكان هما عصب النضال الوطني الفلسطيني. والأماكن المستهدفة المذكورة أعلاه، والتي احتدمت فيها المواجهات في شهر مايو/ أيار الماضي، وإلى جانب أهمية كل منها وخصوصيته، هي أيضًا رموز للمكان الأكبر والأوسع، فلسطين. وهذا يفسّر مدى استنفار الحسّ الوطني لدى الفلسطينيين أينما وجدوا. هذا إضافة إلى استنفار حس التعاطف لدى حلفائهم وأنصارهم، عربًا وغير عرب، مسلمين وغير مسلمين.
ثانيًا: إن شبان فلسطين وصباياها كانوا، وما زالوا، في طليعة المدافعين عن هذا الحق وتلك الهوية. ولهذه الظاهرة الشبابية دلالات بعيدة المدى. هذا الشباب الفلسطيني، وخلافًا لمن أساء الظن أو الفهم أو التقدير، يعرف الرواية والهدف والطريق، كما ويعرف كيف يتحدّى ويتصدّى. شباب لا يكلّ ولا يذل، ولا ينتظر توجيهاتٍ من قيادات أحزاب وفصائل شاخت أو ضلّت الطريق. شباب يتقن استعمال شبكات التواصل الاجتماعي، لحشد الرأي العام المحلي والعربي والعالمي وكسبه.
ثالثًا: إن النضال الشعبي/ الميداني، الهادف والجدّي والمستمر، هو الأساس. هو نضالٌ في المكان، دفاعًا عن الحق في ملكية المكان وعن هوية المكان، وما يقترن بذلك من كرامةٍ فرديةٍ ووطنية. وهو أيضًا نضالٌ يصلب من عود المشاركين، يربك العدو ويستنزفه، ويزيد من تناسل أعداد المتضامنين الدوليين. ودون مثل هذا النوع من النضال، أو في غيابه، يظل السعي القانوني والدبلوماسي/ السياسي ناقصًا في أحسن الأحوال، قاصرًا في أسوئها.
رابعًا: إن التعايش بين الإسرائيليين اليهود وفلسطينيي 1948، خصوصا في المدن الساحلية المختلطة، أكثر هشاشةً مما كان كثيرون منا يظنّون سابقًا، وإن الهوة بين الفريقين ما زالت، كما كانت عبر عشرات السنين، سحيقة وفاغرة. ومثال مدينة اللد أسطع دليل على ذلك، فبعد 73 عامًا على نكبة 1948، فإن هوية ما تبقى من الأحياء الفلسطينية في هذه المدن ما زالت مستهدفة لغرض التهويد، وحقوق الفلسطينيين في هذه الأحياء ما زالت عرضةً للانتهاك من الهيئات الحكومية الإسرائيلية، كما من جماعات اليهود المتطرّفين.
خامسًا: إن السلطة الفلسطينية في رام الله، والتي ينادي رئيسها بالمقاومة الشعبية السلمية منذ زمن، وجدت نفسها على هامش أحداث هبّة الكرامة في أيار، إذ لم يتعدَّ دورها التغطية الإعلامية الداعمة والعمل الدبلوماسي الداعم، وإتاحة المجال للشبّان على نطاق ضيق برشق جنود الاحتلال على الحواجز العسكرية بالحجارة، فليس من باب المصادفة، إذًا أن تكون السلطة الفلسطينية في رام الله، وخلافًا للمقاومة الإسلامية في غزة، من الخاسرين على المستويين، السياسي والشعبي.
سادسًا: إن اختلاط العاملين، الديني والوطني، في هبّة الكرامة لا يعني أو ينتج عنه غلبة العامل الأول على الثاني. صحيحٌ أن المحرّك الديني كان حاضرًا في الأحداث بقوة، خصوصا حين تعرّضت باحات المسجد الأقصى لاعتداءات الشرطة الإسرائيلية واليهود المتطرّفين، ولكن المحرّك الوطني كان، ولا يزال، هو الطاغي. وتشهد على ذلك تلك المشاركة الواسعة للفلسطينيين غير المتدينين في التصدّي لاعتداءات اليهود المتطرّفين، سواء في مدينة القدس الشرقية أو في المدن الساحلية المختلطة داخل (إسرائيل). أضف إلى ذلك أن للقدس بعامة، وللمسجد الأقصى بخاصة، مكانة وأهمية خاصتين لدى الفلسطينيين جميعًا، متدينين وغير متدينين.
سابعًا: إن هبَّة الكرامة أبرزت وحدة الشعب الفلسطيني وعزَّزتها في جميع أماكن وجوده، سواء داخل حدود فلسطين التاريخية أو خارجها، تمامًا كما أبرزت وحدة الرواية وتكامل أشكال النضال وعزَّزتهما، دفاعًا عن الحقوق، المدنية منها والوطنية.
وتقول هبّة الكرامة لنا وللعالم الأوسع المحيط بنا أشياء أخرى، ليس هنا المقام لحصرها وتعدادها.
وللإجمال: هبّة الكرامة أو، قل، هبّة الشيخ جرّاح وامتداداتها التي وصلت إلى قرية بيتا شمال الضفة الغربية لاحقًا، ليست انتفاضة شعبية شاملة من أجل تحرير فلسطين أو أي جزءٍ محتل منها. من الظلم أن نحمّلها مثل هذا العبء الوطني الكبير والثقيل. هي، كما قلتُ سابقًا، هبّة شعبية تهدف إلى الدفاع عن الحق في ملكية المكان، وعن الهوية الفلسطينية للمكان، سواء كان هذا المكان حي الشيخ جرّاح أو حي بطن الهوى في قرية سلوان أو باب العمود أو باحات المسجد الأقصى، أو أيا من الأحياء الفلسطينية في المدن الساحلية المختلطة. وهي، تبعًا لذلك، هبّة في وجه المستوطنين واليهود المتطرّفين الآخرين الذين يستهدفون ملكية المكان وهويته الفلسطينية، كما في وجه الحكومات الإسرائيلية التي ترعاهم وتحميهم وتشرعن اعتداءاتهم. هي، باختصار، هبّة عنوانها الشيخ جرّاح، ذلك الحي المقدسي الذي أصبح رمزًا وطنيًا، وأصبحت عائلة الكرد التي تسكنه، وفي طليعتها الشابّة منى الكرد، العنوان والأيقونة. وعلى الرغم من محدودية أهدافها، فإن لهبّة الكرامة في أيار بعدًا رمزيًا وطنيًا غاية في الدلالة والأهمية، مفاده التالي: يرفض الفلسطيني، أينما وجد، نظام التفوّق العرقي والهيمنة العرقية القائم حاليًا في فلسطين التاريخية، فلسطين غرب النهر وشرق البحر. وفي المقابل، ما يتوق إليه الفلسطيني وما يناضل من أجله هو الحقوق المتساوية، الفردية/ المدنية منها والجمعية/ الوطنية، في وطنه فلسطين. ويعرف العارفون، ختامًا، أنه، في غياب ذلك الحل الذي يحتضن تلك الحقوق المتساوية ويحترمها، وما يقترن بها من كرامةٍ فرديةٍ ووطنية، فإن هبّات المقاومة بهذا الشكل أو ذاك، بهذا الزخم أو ذاك، بهذه اللحظة الزمنية أو تلك، ستظل تحلّق في سماء فلسطين، قبل أن تحطّ على أرضها!