ثلاثة مبادئ رئيسة، مترابطة ومتكاملة، تفسر بمجملها السياسات والممارسات الإسرائيلية/ الصهيونية تجاه فلسطينيي الداخل والفلسطينيين عمومًا منذ نكبة عام 48 وحتى أيامنا هذه. هذه المبادئ الثلاثة هي التالية: السيادة على فلسطين غرب النهر وشرق البحر أو أكبر جزء منها؛ الاستيلاء على أكبر قدر من أرض أي جزء من فلسطين غرب النهر وشرق البحر؛ وتهويد ما تم أو يتم الاستيلاء عليه، سواء كان تحت سقف السيادة الفعلية أو مرشحًا لأن يكون كذلك. وبناء عليه، فإن الهدف النهائي للدولة الصهيونية ذو شقين مكملين هما: أكبر قدر من الأرض وأقل عدد من المواطنين الفلسطينيين في الدولة، وتهويد أكبر قدر من المناطق والمواقع والأماكن فيها. علمًا بأن تهويد المناطق والمواقع والأماكن يعني، فيما يعنيه، تحقيق أغلبية يهودية في أي جزء خاضع للسيادة الإسرائيلية أو مرشح للخضوع لها أولًا، وتغيير الهوية الفلسطينية لتلك المناطق والمواقع والأماكن إلى الحد الممكن ثانيًا. وتغيير الهوية الفلسطينية بدوره يشمل الأرض تمامًا كما يشمل المعابد والمقابر والأحياء السكنية في مدينة القدس الشرقية وفي المدن الفلسطينية التاريخية في الساحل.
لأسباب كثيرة، لا داعي لحصرها وتبنيدها هنا، لم يعد ترحيل أو تهجير الفلسطينيين خارج حدود فلسطين الانتدابية هو الهدف أو المخطط الرئيس لإسرائيل والحركة الصهيونية. الهدف أو المخطط البديل، كما تتجلى ملامحه من خلال السياسات والممارسات والقوانين والأنظمة الإدارية، هو التالي أو ما يقارب ذلك:
· حرمان المواطنين الفلسطينيين الذين يخضعون لسيادة دولة الاحتلال، حاليًا ومستقبلًا، من حق تقرير المصير، درة تاج الحقوق الجماعية كلها. وتم التعبير عن ذلك، كما نعرف جيدًا، من خلال تشريع قانون القومية في صيف 2018.
· الاستيلاء على أكبر قدر من الأرض الفلسطينية بأقل عدد من السكان الفلسطينيين فيها. وفي المقابل، التنازل عن أقل قدر من الأرض بأكثر عدد من السكان الفلسطينيين فيها. هذا يفسر، من بين أمور أخرى، الهجمة الشرسة على أراضي الفلسطينيين البدو في النقب، تماما كما يفسر الهجمة التي لا تقل شراسة على المناطق المصنفة "ج" في الضفة الغربية المحتلة، وتمامًا كما يفسر، في المقابل، الانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة عام 2005.
· استبدال هوية المكان في فلسطين، سواء كان هذا المكان البلدة القديمة في شرقي القدس ومحيطها من الأحياء السكنية والمقابر، أو الأحياء الفلسطينية في المدن الساحلية أو المقابر والمعابد وبقية المعالم التاريخية والأثرية في تلك المدن.
باختصار، وبعد تشريع ونفاذ قانون القومية، فإن المخطط الرئيس، والذي يتم السعي حثيثًا لتنفيذه وسط الظهيرة وأمام أعيننا، يُعنى أساسًا باستهداف الأرض في النقب والمناطق "ج" في الضفة الغربية من جهة، وهوية المكان في القدس داخل الأسوار والأحياء المحيطة بها، كما في المدن الفلسطينية التاريخية في الساحل، من جهةٍ أخرى.
أ. السيادة المشتهاة:
بعد إلحاق شرقي القدس المحتلة بالسيادة الإسرائيلية من طرف واحد، ومن ثم تغليف مدينة القدس غربها وشرقها بالجدار الفاصل والعازل، وبعد الانسحاب من طرف واحدٍ من قطاع غزة، ومن ثم حصار بحره وجوه وتغليف بره بالجدار الفاصل والحابس، فإن شهوة الضم والإلحاق بالسيادة الإسرائيلية مصوبة الآن نحو الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية، وعمومًا نحو المناطق المصنفة "ج" حسب اتفاق أوسلو سيئ الصيت. تلك الشهوة غير خافية، وتلك المناطق المصنفة "ج" شاسعة ولا يسكنها إلا عشرات الآلاف من الفلسطينيين. والمناطق المعنية المشتهاة تشمل الأغوار الفلسطينية كما تشمل مسافر يطا جنوب الخليل أساسًا. وإذا كان الأمر كذلك، فليس من باب الصدفة، إذن، أن تتصاعد وتتكثف اعتداءات الجيش والمستوطنين واليهود المتطرفين على سكان وبيوت ومزارع ومراعي تلك المناطق. وليس صدفة أيضًا أن يستشهد المقاوم العنيد الشيخ سليمان الهذالين دفاعًا عن مسافر يطا المشتهاة.
ب. الأرض المشتهاة:
ولا تفلت من شهوة وجشع إسرائيل الصهيونية أراضي الفلسطينيين البدو في النقب، خاصةً تلك الأراضي الصالحة للزراعة ورعي المواشي، التي يملكها السكان الأصليون منذ مئات السنين، علمًا أن مساحة الأراضي "المتنازع عليها" تفوق النصف مليون دونم، ويعتاش عليها عشرات الآلاف من الفلسطينيين البدو، الذين ما زال يسكن ما يزيد على 70 ألفا منهم في 35 قرية منزوعة الاعتراف مثل قرية سعوة - الأطرش، وبالتالي، منزوعة الخدمات الحياتية الأساسية كالطرق المعبدة وخطوط الكهرباء والمدارس والعيادات الطبية. جدير ذكره في هذا الصدد أن الأراضي التي يملكها الفلسطينيون اليوم في النقب هي مخزون الأراضي الذي تبقى للفلسطينيين داخل إسرائيل، والتي لا تتجاوز بمجملها الـ3% من أراضي الدولة. وأخيرًا، يجب أن لا يغيب عن الأذهان لحظة واحدة أن الصراع على ملكية الأراضي المذكورة في النقب ذو بعدين واضحين ومميزين، بعد مدني وآخر وطني، تمامًا مثل الصراع على ملكية الأراضي في كل من الأغوار ومسافر يطا. وفي كلتا الحالتين، فإن للبعد الوطني أسبقية على البعد المدني، في نظر كل من الجناة والضحايا على حد سواء. فملكية الأرض وتجريد الملكية منها يتم بناء على اعتبارات إثنية/ عرقية.
ج. استهداف هوية المكان:
ولا زال سوط التهويد يضرب بصورة موجعة في القدس وداخل الأسوار والأحياء المحيطة بها، تماما كما يضرب بصورة موجعة في الأحياء الفلسطينية في المدن التاريخية في الساحل (يافا واللد والرملة وحيفا وعكا). ولا تنجو حتى المساجد والمقابر والمقامات من هذه الضربات. ففي مدينة القدس المحتلة، تتعرض مقبرتا مأمن الله واليوسفية للتجريف، وتتعرض مئات العائلات للترحيل من البلدة القديمة داخل الأسوار، كما من أحياء البستان وبطن الهوى والشيخ جراح (وكان آخرها تشريد عائلة الصالحية بعد هدم منزلين). وفي مدينة يافا، تتعرض مئات العائلات للترحيل، كما تتعرض القبور في مقبرة قديمة في حي المنشية للتجريف. وفي مدينة حيفا، لا تتوقف الاعتداءات على مقبرة القسام، كما لا يتوقف العمل على تهويد حي وادي الصليب واستهداف المسجد الصغير (الأبيض) الذي بناه ظاهر العمر الزيداني عام 1761. وفي مدينة عكا، تم ترحيل مئات العائلات من البلدة القديمة داخل الأسوار، ولا يزال شبح الترحيل محلقًا. وهكذا. وفي عمل كل ذلك، تلعب المنظمات والجماعات الصهيونية المتطرفة دورها العنصري البشع، كما ويلعب رأس المال الصهيوني دوره الجشع، في إنجاز عمليات التهويد، تهويد المكان واستبدال أو تجريف أو إخفاء معالمه التاريخية والأثرية الفلسطينية.
وللإجمال أقول: ما نحن بصدده، وما نحن شاهدون عليه، هو عملية تهويد جامحة وشرسة، يجري تنفيذها في ثلاثة محاور عمل، متكاملة ومتلاقية في المحطة النهائية أو الهدف النهائي. أول هذه المحاور يُعنى بشهوة صهيونية جامحة لبسط السيادة الإسرائيلية على معظم المناطق الفلسطينية المصنفة "ج" عمومًا، والكتل الاستيطانية والأغوار ومسافر يطا جنوب الخليل خصوصًا. وثاني هذه المحاور يعنى باستيلاء الدولة الصهيونىة على أراضي الفلسطينيين البدو في النقب، وتمليكها لليهود ودولة اليهود حصريًا. وثالث هذه المحاور يعنى بتسميك الهوية اليهودية للمكان، مع تركيز خاص على مدينة القدس الشرقية (البلدة داخل الأسوار والأحياء التي تخاصرها تحديدًا) والمدن التاريخية في الساحل الفلسطيني. أمًا الهدف النهائي فيتلخص بالتالي: سيادة يهودية على فلسطين الانتدابية باستثناء قطاع غزة وما لا يزيد كثيرًا عن نصف مساحة الضفة الغربية؛ وملكية يهودية (خاصة وعامة) للأراضي في المناطق الخاضعة وتلك التي يراد لها أن تخضع للسيادة الإسرائيلية، وذلك باستثناء نزر يسير منها يتبقى للفلسطينيين، سواء في الضفة الغربية أو داخل إسرائيل ذاتها؛ وتهويد هوية المكان، أي تغيير أو إتلاف أو إخفاء معالمه التاريخية والأثرية الفلسطينية.
الرد على التحدي:
المخطط الصهيوني أو، قل، المشروع الصهيوني، بمحاوره الثلاثة المبينة أعلاه، يشكل تحديًا هائلًا للشعب الفلسطيني. ومما يزيد من هول التحدي رداءة الوضع الفلسطيني الداخلي. هذه الرداءة تجد تعبيرًا صارخًا لها في الانقسام الداخلي وفي تكلس الأطر القيادية الجامعة وتراجع دورها في قيادة العمل والنضال الوطني. ولكن هبة الفلسطينيين البدو في منطقة "النقع" قي صحراء النقب مؤخرا، وقبلها هبة الكرامة التي انطلقت شرارتها من حي الشيخ جراح في مدينة القدس في شهر أيار/ مايو من العام الماضي، تقول الكثير وبالصوت العالي: تقول إن جذوة المقاومة ما زالت متقدة، وأن شبان وشابات فلسطين، في مواقعهم الجغرافية المختلفة، داخل حدود فلسطين وخارجها، متأهبون للنضال والتضحية والعطاء دفاعًا عن الحقوق، الفردية/ المدنية والجماعية/ الوطنية على حد سواء. وتقول بالصوت العالي أيضًا: ما هو غائب أو شبه غائب عن مسرح الأحداث الأخيرة هو تلك القيادة الوطنية الجامعة، الحاضنة والراعية للنضال.
وختامًا، يعرف العارفون أن تجاوز الانقسام الفلسطيني الداخلي، وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس تشاركية وديمقراطية ونضالية، وذلك بعد فصلها وظيفيًا عن السلطة الوطنية الفلسطينية، وكذلك إعادة بناء لجنة المتابعة العليا في الداخل الفلسطيني حسب نفس الأسس، هو ما يلزم، وهو ما يلح، من أجل احتضان النضال الوطنى الفلسطيني وتعزيزه. وبدون ذلك، يخشى أن يظل النضال موسميًا وأقل كلفة للطرف الآخر، الطرف الصهيوني الموغل في انتهاك الحقوق. علمًا بأن الحقوق التي يتوجب تصعيد النضال من أجلها كأولوية وطنية عليا هي التالية: الحق في ملكية الأرض وما عليها (يشمل استعادة ما أمكن مما صودر ظلمًا منها)، الحق في الحفاظ على الهوية الفلسطينية للمكان (أحياؤه السكنية ومقابره ومعابده وبقية معالمه التاريخية والأثرية)، والحق في تقرير المصير للفلسطينيين أينما وجدوا، سواء داخل حدود دولة إسرائيل أو خارجها، داخل حدود فلسطين الانتدابية أو خارجها.