بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2014 الذي استمر 51 يومًا من القصف والقتل والتدمير، التقيت وفدًا طبيًّا إنسانيًّا من فرنسا يبحث في حالة التعايش الديني بين المسلمين والمسيحيين في قطاع غزة. فرافقته في جولة شملت منزلًا لعائلة مسيحية دُمِّر بالطريقة الوحشية نفسها التي استهدفت نحو 13217 منزلًا فلسطينيًّا آخر. ثم كانت القصة الأبرز في كنيسة بروفيريوس التي تتبع طائفة الروم الأرثوذكس، إذ تجلت عظمة الوحدة والمصير المشترك، فمن شدة القصف على حي الزيتون بمدينة غزة لم يجد المئات من السكان سوى الكنيسة لتؤويهم من الخوف الذي تحمله صواريخ العدو الإسرائيلي وطائراته. تلك الكنيسة التي تلتصق تمامًا بمسجد "كاتب ولاية" كانت المكان الذي أقام فيه المسلمون صلواتهم بل وأحيوا في الكنسية ليلة القدر، في الوقت الذي لم يكن المسجد آمنًا من قصف العدو الذي استهدف نحو 170 مسجدًا آخر.
لم يتردد راعي الكنيسة يومها في تفنيد وإبطال مزاعم العدو عن إطلاق صواريخ من داخل مقبرة الكنيسة، معتبرًا ذلك تبريرًا رخيصًا لاستهداف الكنيسة وقصف مقبرتها كما فعل مع 10 مقابر إسلامية. لقد وقفت هناك على معاني الإنسانية والعيش المشترك بين الأفكار والمذاهب المختلفة. كل هذا يحدث في غزة التي نعيش فيها منذ ولدنا ولم نشعر فيها بأن زميلنا أو حتى معلمنا في المدرسة هو مسيحي يختلف عنا في الانتماء الوطني ومواجهة إجراءات الاحتلال، لا في سنوات الاحتلال لغزة أو حتى بعد دحره منها.
ما أجمل تلك الجملة التي قالها الفلسطيني الأب مانويل مسلم: "لقد تقاسمنا الخوف والخبز"، واصفًا حالة التماسك والتعاضد الوطني لشعب يعيش تحت الاحتلال، متجاوزًا مفردات التعايش الديني التقليدية والتي قد توحي أحيانًا بوجود خلافات مبطنة، إلى الشراكة الوطنية في مواجهة العدو المحتل. وهو نفس المعنى الوطني الذي عبر عنه راعي كنيسة الروم الأرثوذكس بغزة، المطران اليوناني إليكسوس: "المسيحيون هم جزء من جسد الشعب الفلسطيني". وكذا كان المطران المناضل "كابوتشي" العربي السوري مطران مدينة القدس منذ 1965م من أبرز المناضلين ضد الاحتلال الإسرائيلي، الذي أمضى في سجون الاحتلال 4 سنوات بتهمة دعمه المقاومة الفلسطينية وأبعد عن فلسطين عام 1978م.
نعم "نحن.. قصة شعب يعيش في سلام ديني" كان فيلمًا وثائقيًا يعكس واقع الشراكة الوطنية للمسلمين والمسيحيين في غزة، ويحمل للعالم صورة الإنسان الفلسطيني الذي يعيش السلام في دينه ودين رفيقه في الوطن. فالحصار لم يفرق بين مسلم ومسيحي، كلاهما يعاني وكلاهما يناضل وكلاهما يحلم!
لم تعرف الثورة الفلسطينية يومًا تمييزًا على أساس ديني أو مذهبي، وليس ذلك إنكارًا لوجود فوارق أيديولوجية أو اختلافات عقائدية، ولكنها تبقى في إطار التنوع الديني عند البشر الذي لم تنكره الكتب السماوية، ولم يغفل عنه الأنبياء والرسل، بل دعاة ومصلحون على أساس أن حرية الاعتقاد مكفولة من الله، وهو وحده صاحب الحق المطلق في الحكم. وما تلك الأصوات النشاز التي تصدر من موتورين فكريًّا بل ومتآمرين على صمود غزة رغم حصارها، إلا تعبير عن اليأس من محاولة كسر روابط وطنية استعصت على العدو من قبل.
ولا يروج لخطاب الكراهية إلا من اغتمرت نفسه بها، ومن تغذت روحه على التضليل وفبركة الأخبار وتلبيسها بمسوح الشذوذ الفكري. أولئك الذين ما عاشوا حياة الناس ولا عايشوا يومياتهم، فهم إما خلف الشاشات يتصيدون السقطات أو بين سطور الوشاية يصيغون الكذب الأعمى. فأحدهم وصل به البله الفكري والجهالة المعرفية ليقول عن فلسطين بأنها "نشأة وممات النبي الفلسطيني عيسى عليه السلام"، في خلط واضح بين حقيقة التاريخ وخصوصية الدين وحقيقة المعتقد. فكيف له كمسلم أن يعتقد بموت عيسى؟! وكيف له أن يمنح الجنسية لرسول من عند الله؟! لكن الاضطراب هو سمة من يبحثون عن المجهول ويقلبون في خبثهم عن الفضيلة.
إن "خطاب الكراهية" مفردة غريبة على مجتمعنا وثقافتنا، فالوطن يحتمل تنوعًا دينيًّا ويمتلك طيفًا سياسيًّا، فلم يكن المسيحي يساريًّا بالضرورة، ولعل معظم الأجيال لا تربط بين أسماء قيادات وطنية في الثورة الفلسطينية وبين انتمائها الديني! إذ لم ولن تكون هناك حاجة، فلا تزال بوصلة النضال الوطني واضحة ضد الاحتلال الذي لا يرقب في مؤمن إلًّا ولا ذمة.