فلسطين أون لاين

العلاقات الصينية الإسرائيلية تستدعي التوتر والاستقطاب

لا شك أن زيارة نانسي بلوسي "رئيسة مجلس النواب الأمريكي" إلى تايوان في 2 أغسطس 2022م قد فتحت نقاشاً حول الاستقطاب والتوتر بين حلفاء الولايات المتحدة من جهة وشبكة المصالح التي تربطهم بالصين من جهة أخرى، وهو يأتي بشكل أكثر وضوحاً بعد الحرب الروسية الأوكرانية. وقد استعادت حالة التوتر تلك تاريخاً طويلاً من التردد في العلاقة بين بيجين و(تل أبيب)، تداخلت فيها السياسة والمصالح الاقتصادية والعسكرية بالمبادئ الثورية للشيوعية.

ولعل من اللافت أن (إسرائيل) هي أول دولة في الشرق الأوسط تعترف بجمهورية الصين الشعبية عام 1951م، والتي أعلن عنها بعد انتصار الحزب الشيوعي الصيني في الحرب الأهلية، ويمكن اعتبار ذلك رداً دبلوماسياً على اعتراف الصين -ما قبل الشيوعية- بإسرائيل عام 1948م. إلا أن تلك العلاقة لم تصل إلى الشكل الدبلوماسي الحقيقي إلا بعد نحو 44 عاماً. فخلال خمسينيات القرن الماضي شهدت العلاقة بين تل أبيب وبيجين توتراً إثر قيام (إسرائيل) بدعم كوريا الجنوبية ومساندتها لإرسال قوات الأمم المتحدة إلى كوريا، وبذلك حسمت (إسرائيل) موقفها بجانب الولايات المتحدة الأمريكية "الإمبريالية" في مواجهة الصين "الشيوعية".

وقد ردت الصين بدعمها لمصر ضد العدوان الثلاثي -بريطانيا وفرنسا و(إسرائيل)- عام 1956م. وتعززت العلاقة المتوترة بينهما في ستينيات القرن الماضي عندما قامت (إسرائيل) بدعم الهند بالسلاح ضد الصين في حرب 1962م بينهما. ومما زاد الطين بلة بالنسبة للصين هو إقامة (إسرائيل) علاقات قوية مع تايوان التي تعتبرها الصين جزءا لا يتجزأ منها وهو ما يعرف بـ “سياسة الصين الواحدة”. مع العلم أن مشكلة تايوان بدأت بسبب الخلاف حول الوضع السياسي للجزيرة بعد انتقال إدارتها إلى الصينيين من اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية 1945م، وما تبعه من انقسام الصين عام 1949 نتيجة الحرب الأهلية الصينية، مع عدم تجاهل أن تايوان كانت تشغل مقعداً دائماً في الأمم المتحدة وتتمتع بحق النقض الفيتو في مجلس الأمن بين 1945م-1971م، باعتبارها من يمثل الشعب الصيني بدعم صريح من الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. وتايوان لا تحظى سوى باعتراف 15 دولة، أهمها الفاتيكان!

لقد شكل افتتاح الصين مكتبا دبلوماسيا كاملا لمنظمة التحرير الفلسطينية في بيجين عام 1965م، واستقبالها لرئيس المنظمة في ذلك الوقت "أحمد الشقيري"  في مارس 1965م؛ نقطة فارقة في العلاقة الصينية الإسرائيلية، حيث إنه ومنذ ذلك الحين اعْتُبِرت الصين أحد أصدقاء الثورة الفلسطينية وداعميها بالمال والسلاح. واستمر ذلك التوتر طيلة سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، مع وجود محاولات متعددة لبناء علاقات اقتصادية وسياسية من خلال الحزب الشيوعي الإسرائيلي، إلاّ أنها جميعاً فشلت حتى التسعينيات.

ويمكن اعتبار مبادرة (إسرائيل) بالتصويت لصالح قرار قبول الصين في الأمم المتحدة عام 1971م بداية فتح الطريق أمام علاقات سرية متعددة، تعززت مع رغبة الصين بوقف مد الاتحاد السوفيتي في شرق آسيا، الأمر الذي تساعد فيه (إسرائيل)، بالإضافة إلى توقيع أكبر دولة عربية "مصر" معاهدة سلام مع (إسرائيل) في 26 مارس 1979م، وما سبقها من استعداد منظمة التحرير الفلسطينية عام 1974م للقبول بحل الدولتين، ضمن برنامج النقاط العشر والذي نص في النقطة الثانية على "إقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها".

وفي إثر سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991م، وعقد مؤتمر مدريد للسلام (30 أكتوبر 1991) بين (إسرائيل) وأعدائها العرب تم الإعلان عن إقامة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين تل أبيب وبيجين في يناير 1992م، ومنذ ذلك الحين بدأت حقبة جديدة من الانفتاح الاقتصادي والعسكري بينهما.

ووفقاً للمعطيات الاقتصادية فإن الصين أصبحت حتى 2020 ثاني أكبر سوق تصدير لإسرائيل، وأن الصين تعتبر مصدر20% من استثمارات الشركات الإسرائيلية في مجال التكنولوجيا الفائقة. وقد بالغت (إسرائيل) في التقرب من الصين لدرجة أنها في عام 2014م قد منحت شركة "بريت فود" الصينية فرصة الاستحواذ على 56٪ من أسهم "تنوفا" وهي أكبر شركة ألبان في (إسرائيل) بمبلغ 2.4 مليار دولار، وبالتالي تستحوذ على 68% من السوق المحلي. ويذكر هنا أن التبادل التجاري بين الصين و(إسرائيل) يتوزع على 67٪ واردات البضائع من الصين مقابل 33٪ على الصادرات من (إسرائيل) إليها.

بل وصل الأمر إلى مشاريع البنى التحتية مثل بناء رصيف ميناء حيفا الاستراتيجي، حيث إن الصين أصبح لديها حق استغلاله 25 عاماً بدءاً من ديسمبر 2018م، بالإضافة إلى مشروع بناء ميناء متكامل في أسدود بتكلفة 3 مليارات دولار. ولا شك أن ذلك التعاون قد أثار حفيظة الولايات المتحدة الأمريكية على (إسرائيل)، حيث إن الأمر قد وصل إلى قلق الولايات المتحدة من التواجد الصيني بالقرب من أماكن تردد سفن الأسطول السادس الأمريكي.

ويضاف إلى ذلك قلق كبير للولايات المتحدة الأمريكية و(إسرائيل) من العلاقات الإيرانية الصينية، حيث تعتبر الصين أحد كبار المستثمرين مع طهران مقابل حصولها على النفط الإيراني بأسعار تفضيلية، الأمر الذي يخفف من تأثير العقوبات الأمريكية على طهران في حال استمرار تعثر العودة إلى الاتفاق النووي الموقع عام 2015م بين إيران من جهة ودول 5+1 (الصين، روسيا، أمريكا، فرنسا، ألمانيا وبريطانيا) من جهة أخرى.

يجب ألا نتجاهل أن علاقة (إسرائيل) الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية لا يمنحها فرصة لتفضيل أي دولة عليها، حيث إن استمرار التعاون العسكري والاستخباري وفي قطاع الصناعات فائقة الدقة، يعتمد على ضمان واشنطن ألا تصل تلك التقنيات إلى أي من أعدائها، وذلك يشمل الصين بالتأكيد.

وفي ظل زيادة حدة الاستقطاب الناتج عن تعارض المصالح الاستراتيجية للاحتلال الإسرائيلي من مركز الثقل الأمريكي، سواء فيما يتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية، أو الاتفاق النووي الإيراني، أو ما نتج عن التوتر بين الولايات المتحدة والصين بخصوص تايوان؛ فإن الأصوات الإسرائيلية تتعالى وتتضح بالحسم لصالح انحياز إسرائيل للولايات المتحدة في حال نزاعها مع أي طرف آخر. فهل يمكن أن ينعكس ذلك الاستقطاب والتوتر إيجابياً على القضية الفلسطينية في المستقبل؟ وهل توجد أطراف عربية أو إقليمية قادرة على دعم مسار الفلسطيني لاستثمار ذلك؟