فلسطين أون لاين

​بعد مغامراته يلمس الآن التناقض بين الترحال والحضر

العتيبي في مجاهل الأرض يعيش التاريخ بكل حواسه (ج 2)

...
جانب من إحدى رحلات لؤي العتييبي
غزة - عبد الرحمن الطهراوي

للمرة الثانية تحزم "فلسطين" حقائب الرحلة إلى مجاهل الأرض برفقة المغامر لؤي العتيبي، كي نتعرف في "الحلقة الثانية" إلى مجريات لقائه مع آكلي لحوم البشر، وأبرز المشاهد التي استوقفته طوال سنوات مغامراته، قبل أن نختتم حوارنا الشائق بالحديث عن واقع الأعمال الإنتاجية الوثائقية في العالم العربي.

وتوقف الحديث في الحلقة السابقة عند لحظة توجه العتيبي وفريقه المساعد إلى بلدة "لاليبيلا" شمال إثيوبيا، كي يكشف حقيقة أساطير كنائسها الإحدى عشرة التي حفرت تحت الأرض من صخرة واحدة ضخمة، قبل أن يتوجه في المحطة الثانية نحو مقاطعة "عفار"، وهي من أكثر المناطق انخفاضًا وقسوة على وجه الأرض، وفيها بركان "أرتالي" الذي يطلق عليه "بوابة جهنم".

ولا أحد منكم _أعزائي القراء_ يستطيع أن يتخيل مشهد سير المغامر العربي في الليالي الحالكة الظلام نحو فوهة البركان النشط، أو لحظة تفسخ قشرة الأرض المحيطة بالفوهة من تحت أقدام الفريق، ما جعل احتمالية انزلاق أحد الأفراد تحت الحمم البركانية أمرًا قائمًا في الحسبان، فضلاً عن انبعاث الغازات السامة وارتفاع دراجات الحرارة إلى معدلات لا تطاق.

وهكذا أخذت رحلة العتيبي في أرض الحبشة تزداد متعة وخطورة من شمالها إلى جنوبها إلى شرقها ثم وسطها وغربها، إذ وصل الفريق في المحطة الثالثة والرابعة إلى مرتفعات "تيجري" ثم مدينة "أكسوم" التي أسست عام 325 قبل الميلاد، وتحتوي كنيسة مريم بن صهيون التي بداخلها تابوت العهد والوصايا العشر التي أعطيت لسيدنا موسى (عليه السلام).

إلغاء الحواجز

وفي مرتفعات "تيجري" خاض ضيفنا مغامرة شاقة عندما تسلق بمفرده إلى واحدة من أغرب الأماكن على وجه الأرض كنيسة "أبونا ياماتا" دون أي وسيلة أمان أو معدات حديثة تسلقاً لتلك الصخرة، مدة أربع ساعات، ليستشعر كيف كانوا يصعدون في الماضي إلى هذه الكنيسة المعزولة عن أعين الناس فوق ارتفاع 500 متر، وتقول الأسطورة إنها حفرت في القرن الخامس الميلادي.

وعن تفاصيل الحلقات الخمس الأخيرة يتحدث ضيفنا: "توجهنا لاحقًا إلى منبع نهر النيل الأزرق، ثم التقينا قبائل السورما، التي تعد من أكثر القبائل عزلة في العالم، إذ تعيش في أقصى جنوب إثيوبيا على الحدود مع كينيا ودولة جنوب السودان، وتعرفنا إلى أساليب حياتهم والطقوس الدينية لديهم بممارستهم السحر في العلاج واستشراف المستقبل حسب معتقداتهم".

ويكمل بأسلوبه السلس: "قادتنا رحلتنا السابعة إلى واحدة من أروع المناطق الطبيعية الساحرة، وهي بحيرة شامو، التي تتميز بالحياة البرية العجيبة، وكذلك قضينا ساعات في جزيرة الموت الموجود داخلها عدد ضخم جدًّا من تماسيح النيل الأزرق، وهي الأشرس من بين تماسيح العالم، وبسببها يموت كل عام ما يقارب مئتي شخص".

وتعرف مغامرنا العربي لاحقًا إلى أغرب طقوس الزواج لدى قبائل الهمر، وشاركهم في فرحتهم بالرقصة الليلية، وفي الحلقة التالية زار "هرر" مدينة العلم والعلماء، ثم بحث عن الضباع محاولًا التقرب منها وإلغاء الحواجز التي بين الإنسان والحيوان، ثم ختم رحلته الاستكشافية في إثيوبيا بزيارة مقاطعة كافا مصدر شجرة البن في العالم وصولًا إلى مدينة "الزهرة الجديدة".

استأذن ضيفنا بضع دقائق لإعداد مشروبه الطبيعي المفضل قبل أن نفتح معه صندوق كواليس سلسلة استكشاف إثيوبيا وأغرب المشاهد التي استوقفته، وحينها سألته ممازحًا عن سبب إعداده مشروبه بنفسه فأين شريكة الحياة، فأجاب متسائلًا أيضًا بعد ضحكة كسرت دسامة الحديث: "وهل يجتمع جنون المغامرة مع الزوجة في بيت واحد يا صديقي؟!".

تلك السلسلة "إثيوبيا على الأقدام" عرضت على شاشة الجزيرة الوثائقية للمرة الأولى في شهر نيسان (أبريل) المنصرم، ولاقت حينها إقبالًا كبيرًا بحدود 30 مليون مشاهد عربي، وفق تقارير القناة، ثم أعيد بثها نهاية العام نفسه 2016م.

اهرب .. خلفك فيل

مخاطر مميتة اعترضت العتيبي طوال رحلاته حول المجاهل الجغرافية والإنسانية، يشير إلى بعضها هنا: "كنت أقضي مدة شهر بمحميات تنزانيا لفهم سلوكيات الحيوانات البرية، وفي ليلة ما اشتمت الضباع رائحتي وأنا نائم داخل خيمتي فأتت لمهاجمتي، ولولا لطف الله لكانت النتائج وخيمة، وذات مرة كنت أدرس حياة التماسيح بمنطقة الأمازون فإذا واحد منها ضربني بذيله فقذفني عدة أمتار وأصابني بجروح، إضافة إلى عشرات المرات التي أصبت فيها بلدغات عقارب وأفاعٍ".

وأيضاً ستبقى ذاكرة المغامر لؤي تتذكر تفاصيل محاصرته من قبل شبان إحدى القبائل، وسط غابة في جزيرة نائية جنوب شرق آسيا، واقترابهم من رميّه بسهامهم الحادة كونه ذا مظهر غريب عليهم، وكذلك لا ينسى لحظة هروبه من فيل هائج داخل أحراش زيمبابوي، أو عندما توغل داخل بحيرة التماسيح واقترب من فرس النهر على متن قارب خشبي، ما دفع الأخير إلى إصدار أصوات تحذيرية.

ومن نماذج الموت الممزوجة بالغرائب غير الطبيعية، التي عايشها في رحلته الاستكشافية الجديدة داخل خمس جزر صغيرة معزولة في أقصى شرق المحيط الهندي؛ حين كان يصور حلقة عند إحدى القبائل الذين يذبحون القرابين ويمارسون الشعوذة لاسترضاء الأرواح وفق معتقداتهم، وقتها تلبس الجن عضوًا من فريق العمل، لكن الطاقم الطبي تدخل وأنقذ الحالة، وفي موقع آخر شارك ضيفنا في إخراج جثث من قبور مغلقة منذ أكثر من خمسين سنة خلال مراسم معينة عند القبيلة.

وليس بعيدًا عن "الموت" بادرنا إلى سؤال ضيفنا عن صورة مسربة من كواليس تصوير السلسلة الوثائقية الجديدة والثانية له (اكتشاف المجهول.. إندونيسيا)، ذات الحلقات الخمس التي استغرق الإعداد لها عشرة أشهر والتصوير ثلاثة أشهر، وستعرض للمرة الأولى في شهر آذار (مارس) القادم، حيث تظهر الصورة "تفسيح الموتى" في أرجاء مدينة ما.

وعن تفاصيل تلك الصورة يتحدث موضحًا: "تلك عادة قبائل التوراجا في جزيرة "سولاويسي" الإندونيسية، إذ تستخرج الجثامين من قبورها كي يطاف بها في أرجاء البلدة ثلاثة أيام متتالية قبل أن تعاد إلى القبر بعد تغسيلها وتجهيزها بملابس جديدة"، مع الإشارة إلى أنه عندما يموت الشخص هناك لا يدفن مباشرة بل يبقى في البيت بضع سنوات ويعامل كالشخص المريض، فيقدم له الطعام والشراب ويتحدثون إليه باستمرار وهو جثة هامدة.

آكلو البشر

بلغ سيل العجائب الزبى عندما أظهر مقطع ترويجي للسلسلة الجديدة مقابلة المغامر لؤي آخر مجموعة على وجه الكرة الأرضية، مازال أفرادها يأكلون لحوم البشر.

"وما الذي دفعك إلى تلك المغامرة المخيفة؟!"، يبتسم صوت العتيبي هنا، قبل أن يجيب عن سؤالي المشحون بالاستغراب: "سمعت ذات مرة عن وجود أولئك البشر في منطقة ما غير محددة بدقة، فانطلقت بفريق العمل نحو الهدف، وبعد ستة أيام وصلنا إلى جزيرة بابوا وتحديدا قبائل الكورواي، وهناك التقيت آخر مجموعة لآكلي لحوم البشر في القرن الحديث، بل عشت معهم 25 يوماً، ثم عدت أدراجي مستغرقًا في رحلة العودة ستة أيام أخرى".

"وما أسباب أكل بعضهم لحوم بعض؟"، لم يكن من داعٍ لتساؤل كهذا، لأنه استطرد وحده قائلاً: "يوجد لديهم عدة مبررات منها، إذا توفي شخص فجأة يعتقدون أن شخصًا ما عمل له سحرًا، فيجتمعون ويقررون المتهم ثم يقتلونه ويأكلون لحمه، وكذلك إذا سرقت النساء، أو إذا اقتحم أحد أفراد قبيلة ما حدود قبيلة أخرى، لذلك يبنون أكواخهم على ارتفاع 40 مترًا، لكي يحموا أنفسهم من غزوات القبائل الأخرى عليهم، ومن لدغات البعوض القاتلة".

وقطع المغامر في طريق وصوله إلى هدفه المنشودة في جزيرة بابوا 450 كيلو متر على متن قارب في النهر، ثم يومين سيرًا على الأقدام في الغابات الاستوائية، ليكون مجموع مسيرة رحلته 12 يومًا ذهابًا وإيابًا.

ومن متابعتي للعديد من حلقات مغامرات لؤي العتيبي استوقفتني مشاهد عدة تدهش الناظرين إليها، وتدفع إلى التساؤل مرارًا عن كيفية قدرته على الانسجام مع القبائل والمجموعات البشرية ذات الطبائع والعادات المختلفة كليًّا عن حياتنا هنا في الحضر.

ويجيب عن التساؤلات بالقول: "بيت القصيد هنا هو أنني إذا لم أستطع التفكير بطريقتهم فلن أفهمهم، لذا سعيت إلى أن أكون قريبًا من القبائل، فإذا دُعيت للغداء أمدّ يدي لأشعرهم أنني قريب منهم وغير آنف من طعامهم، وكنت أتذوق طعامهم دون أن أبتلعه لكي أعرف الطعم، ولكن لم أشرب دم النعجة أو أكل لحمًا لم يذكر اسم الله عليه، وفي الوقت نفسه لم أنكر عليهم ذلك؛ فهذا جزء من حياتهم اليومية".

ويزيد بكلمات راقية: "هم _الشعوب_ يتعاملون مع الإنسان على أنه إنسان، فهم لا يريدون مني شيئًا، ماذا عساي أن أمنحهم؟، مالًا؟، هاتفًا؟، نقودً؟، هم لا يتعاملون بهذه الأشياء من الأصل، ما يريدونه هو المشاعر الإنسانية الصادقة، والشعور بالقرب والدفء الذي انتقل إليّ؛ فشعرت بالسعادة وأنا معهم، بل أصبحت أفكر بطريقتهم وأرى بعيونهم وأسمع بآذانهم، هذا الاندماج والتفكير بطريقتهم ولّدا تقاربًا روحيًّا أثمر ألفة بيني وبينهم تلاشت إثرها فروق الشكل واللون بمرور الوقت".

إمكانات ضعيفة

انتقلنا في حديثنا مع لؤي العتيبي في المحطة الأخيرة إلى أسباب هيمنة الإعلام الغربي على الأفلام الوثائقية، وغيابها الشبه التام عن الشاشة العربية، عزا تلك الأسباب إلى اهتمام المؤسسات التعليمية لدى الغرب بمواهب الأطفال وتنميتها منذ الصغر، إلى جانب توفير الدعم والمحفزات المادية والمعنوية لمن يجدون عنده رغبة بالتجول والاستكشاف؛ فهي تعني لهم الكثير.

أما السبب الثالث فهو ضعف إمكانات وسائل الإعلام العربية، وتفضيلها الأعمال التجارية على حسب المنتجات الوثائقية، في الوقت الذي تسخر فيه شاشة التلفاز الغربية إمكانات مادية وطاقات بشرية متخصصة لإنتاج الأعمال الوثائقية في مجالات مختلفة، لافتاً إلى أنه لولا اهتمام وتبني قناة الجزيرة الوثائقية لهذا النوع من الأفلام لما رأى النور على مستوى العالم العربي.

ويتمنى العتيبي بصبر نافد اللحظة التي ستشتري فيها وسائل الإعلام الغربية الأفلام الوثائقية العربية، ثم تترجمها أو تدبلجها لعرضها على شاشاتها، ليكتشفوا العالم من منظورنا ورثة ابن بطوطة وأحمد بن ماجد، لكن تلك اللحظة تحتاج إلى الكثير من العمل المكثف والميزانيات الضخمة، وقبل ذلك تعزيز ثقة الإنسان العربي بقدراته على كسر حاجز النمطية ومنافسة الآخرين.

"هذا النوع من المغامرات في دهاليز العالم يمثل تجربة إنسانية رفيعة المستوى، فهل وصلت إليها؟"، يصمت قليلًا قبل أن يجيب: "يقال إنه من قرأ التاريخ عاش عمرًا غير عمره، ولكن أنا لم اقرأ التاريخ فقط بل عشته بكل حواسي، وبذلك عادت ساعة الزمان بي إلى الماضي القديم، فبات جزء مني يعشق المدينة الحضرية وآخر يعشق الترحال، لا أدري أهذا تناقض، لكنه واقعي القائم منذ سنوات طويلة".