تسير بين أبنية مدمرة أثناء ذهابك وعودتك، تحدثك الأبنية عن تفاصيل وحياة وجرائم ارتكبت عن رسومات كشفتها الجدران المفتوحة بالغرف السكنية أو ببقايا العمارات، أحدهم كتب "أمي جنتي" وكأنها كانت في يوم ميلاد.
على كومة الركام بقي فستان عروس شاهدا على حفل زفافٍ طوته الذاكرة، لعبة أطفال على هيئة "دب" أو عروس أطفال، وألعاب وقصص وكتب ممزقة، أبنية محترقة أخرى مائلة على بعضها، وبنايات بقيت أعمدتها المتهشمة وتفرغت جدرانها كشجرة بلا أوراق، تتعجب أن أصحابها عادوا وسكنوا فيها، نصبوا خيمة بجانب البيت المهدم، أو استصلحوا غرفة في الأبنية المدمرة بشكل جزئي، بعض الأبنية تجثوا على ركبتيها بعدما قص الصاروخ الأعمدة من الأسفل فجلست الجدران على قاعدة أول طبقة، أو بعضها قص الصاروخ جانبها الأيمن أو الأيسر، أو اكتفى بقص عدد من الطوابق، وكأن من ارتكبوا الجرائم تفننوا في صنع دمار يحتار وصفكَ له.
تلاحقنا المسؤوليات، وتجثم على ظهورنا وكاهلنا؛ تبدأ صباحك بجدولٍ لا ينتهي من الالتزامات التي فرضتها ظروف الحرب، لا مرآة تقف أمامها لتحسن مظهرك، فتستعين عن ذلك بهاتفك إن لم تنفد بطاريته، تقرأ الأذكار على عجل، لأن الوقت في الحرب يركب على ظهر خيلٍ على مضمار السابق، تبدأ بالبحث عن طريقة سريعة لتعبئة خزانات المياه "جالونات صغيرة" تكفي لاستعمال عائلتك، أو تشعل النار أو تستعمل غاز الطهي للاغتسال، مطلوب منك توفير طعام الإفطار تحتار ماذا تشتري بين قائمة مرتفعة من الأسعار وكأنك سافرت إلى أغلى مدن العالم وليس في غزة فكل شيء هنا تضاعف سعره.
تحاول الوقوف على طابور الخبز، أو توفير ما يكفي من الطحين لإنهاء مسؤولية يومكَ، تتصل بوالدك أو عزيز عليك البعيد من الناحية الأخرى لحاجز "نيتساريم" ذلك الصوت القادم من هناك، أجمل ما يمكن الاستماع إليه مع بداية يومكَ، لكن ألف مكالمة لن تغني عن لحظة عناق واحدة وجها لوجه.
تذهب إلى عملك، أمامك قائمة من الأعمال المطلوب إنجازها، وعليك تجاوز ثلاثة تحديات يومية، غياب الكهرباء وضعف الانترنت صعوبة الوصول لمصادر المعلومات، فتستمر بالمحاولات التي تنهك أعصابك، كما أنهكت المسؤوليات جسدك.
"في أخبار جديد!؟" ترد على السؤال المتكرر لكَ كونك تعمل في حقل الصحافة، "بالتأكيد الأخبار في الحرب كثيرة، اليوم استشهدت عائلة، وهناك مجزرة في جباليا، وأخرى في بيت لاهيا" يمتعض الرجل من إجابتك "لا يا رجل، أخبار عن الهدنة!؟" تضطر للمسايرة وإغلاق باب النقاش، فالناس أصبحوا كالغريق يتعلقون بقشة أمل، تبتلع حرقتك تلك، وترسم ابتسامة يتخفى خلفها القهر "إن شاء الله، نأمل خيرًا".
تمسك هاتفك، قبل النوم، وقبل ترميم قواك الخائرة، تتصفح الهاتف، تطل صورة صديق تعرفه، جمعتك به صداقة عمر وبجانبها خبر نعيه هو وأهله، تغلق عينيك على دموعكَ، وأنت تمر على شريط ذكرياتك معه، في هذه اللحظة تتمنى لو يحملك طائر لتقفز عن الحاجز اللعين وتواسي من بقي حيا من أهله، أو لتلقي عليه نظرة وداع، وحضن أخير، تسقط دمعاتك على وجهه وأنت تضمه، لكنك تجلس مقيدًا أسيرًا لظروف الحرب لا تستطيع فعل شيء، تتوالى الأخبار، وتتسع قائمة الأصدقاء والأقارب الراحلين، وأنت لا تعرف إن كنت سترحل أم ستشهد نهاية الحرب، فالموت يا صديقي في غزة يجلس ويمشي وينام معنا.