نستقبلُ عيد الأضحى المبارك، كما استقبلنا عيد الفطر وكما استقبلنا شهر رمضان المبارك لا نعرف منها إلا أسمائها. نعيش الفرح بمشاعر حزينة وبقلوب مكلومة تمر كأي يوم بالحرب بل تتأجج فيها الأحزان وتوقد الذكريات شموعها لتغلي نيران الشوق بداخلنا على كل من رحلوا من أهلنا وأقاربنا وكانوا زينة الأعياد ومناسباتنا الجميلة والآن غابوا وبقي طيفهم يحلق في سماء ذكرياتنا ملتصقا في جدار قلوبنا نقف على أطلال أيام لن تعود لنبكيهم ونرثيهم ونستحضر كل شيء جميل معهم.
لا زالت حرب الإبادة تسرق كل شيء جميل يمكن أن يعيشه الإنسان، فسرقت الأمن الذي لم يعد موجودا في أي متر داخل قطاع غزة، سرقت الحياة المتعطلة والمتجمدة فلا ترى أي مظهر من مظاهر الحياة التي يعيشها العالم وكأننا نعيش في مكان وزمان من الأزمنة الماضية ونحن نعيش في العصر الحديث، نحاصر من كل الاتجاهات، في الجو والبحر والبر وتسكب الطائرات قذائفها كزخات مطر لا تتوقف منذ 251 يومًا تبيد العائلات عن بكرة أبيها وتمسح معالم البيوت والأحياء والمدن.
كان الأطفال خلال عيد الفطر يحاولون عيش مراسم فرح، تعالى فيه الآباء على جراحهم وأحيوا العيد ونظمت الفعاليات والصلوات في مراكز الإيواء، ساعد ذلك وجود أكثر من مليون ونصف المليون نازح بمحافظة رفح التي لم تكن تشهد هجوما بريا من الاحتلال الإسرائيلي، وأما الآن وقد نزح كل هؤلاء عن رفح بفعل هجوم الاحتلال عليها وتفرقوا في مواصي خان يونس ذات ظروف الحياة الشاقة والتي تشبه الصحاري وتفتقر للمياه والخدمات، وفي محافظات أخرى هدمها الاحتلال كمحافظة خان يونس التي مسحت فيها أحياء كاملة وطال الدمار معظم بيوت وشوارع المدينة، فأصبح التعالي على الجراح فعيد الأضحى أمرًا صعبًا.
ستصدح حناجرنا المليئة بالقهر بـ "الله أكبر" لتعلو صوت تكبيراتنا بالعيد وهذا الشيء الذي ستحييه غزة الجريحة، لتعلو التكبيرات على الظالمين والمتخاذلين، على من تركونا نباد ووقفوا مشاهدين من بعيد، أو متآمرين سرا وجهرا، على من ذرفوا دموع التماسيح على دمائنا وأشلائنا.
ستلاحق دعواتنا القريبة من السماء هؤلاء لتلعنهم على خذلانهم لغزة ولأطفالها ونسائها، على خيانتهم للضمير وللإنسانية فلا يوجد إنسان في قلبه ذرة من نخوة وشرف ومروءة وعزة وكرامة وإنسانية يقبل أن تمزق أجساد الأطفال والناس إلى أشلاء وتهدم بيوتهم فوق رؤوسهم وهم نائمون، إلا إذا كان متآمرا وحتى الصمت هو جريمة يمارسها العالم على هذه الإبادة التي ترتكب على مرأى ومسمع منم العالم.
أي عيد تعيشه غزة!؟، وهي يوميا تشيّع عشرات الشهداء في جنازات سريعة لا يأخذ ذوو الشهداء حقهم حتى في الحزن وإلقاء نظرات الوداع الأخيرة وفي كثير من الأحيان ينتظرون شهورا طويلة حتى يستطيعوا إخراج جثامين أبنائهم الشهداء العالقة تحت ردم منازلهم أو لا يجدون حتى الأشلاء المتناثرة بين الردم.
أي عيد نعيشه؟ ونحن نعيش أنصاف حياة، تغرقنا الهموم والمتطلبات اليومية للبقاء على قيد الحياة بالسعي لجلب المياه من أماكن بعيدة وبمهام شاقة لتوفير الخبز والطعام، أي عيد؟ وقد تغيرات الأسواق وتدمرت واحترقت كل ما فيها، ولم يبقَ من تلك الأسواق إلا أسمائها أيضًا.
في غزة يزور الأحياء المقابر وهي أصبحت في كل مكان، في ساحات المستشفيات والشوارع بعد امتلاء المقابر الجماعية، يستذكرون أيامهم الجميلة وكيف كانت غزة تستقبل العيد بأبهى صورة، تتزين فيه الأسواق وتنزل العائلات لتشتري الملابس الجديدة ابتهاجا بحلول العيد، وتكتمل الفرحة بشراء الأضاحي لتجتمع العائلات في يوم النحر.
هذه الصور غيبتها الحرب فالناس منشغلة في شراء الخيام والنزوح من مكان إلى آخر والهروب من الموت والصواريخ، كما أن أسعار الأضاحي التي بقيت حيّة حتى الآن تضاعفت بشكل كبير فلا يستطيع أهالي القطاع شرائها.
العيد سيبدأ في غزة عندما تتوقف الحرب، وتنسحب الطائرات من سماء القطاع، والدبابات والآليات من حيث أتت، سيبدأ عندما سيعود النازحون إلى بيوتهم في مشهد مهيب يحاول الاحتلال تأخيره لأنه يدرك أن مشهد عودة قرابة مليون نازح وهم يطلقون صرخاتهم وفرحتهم ويكبرون ويهللون هو أعظم وأكبر نصر وصورة يخشاها.
تؤجل غزة فرحتها بالعيد، لتعيش فرحة أكبر وإن كانت مليئة بغصة الفقد، عند توقف الحرب والعودة إلى البيوت أو على انقاضها ستعيش فرحة تعوضها عن كل ما عاشته من ظروف قاسية ومرارة فعوض الله أجمل وحتمي، وستنال أجر صبرها وثباتها وعدم انكسارها رغم كل البطش والإجرام الهائل.