في الذكرى الثانية والأربعين ليوم الأرض هذا العام، يشهد الوضع السياسي والقيادي الفلسطيني صراعًا ذاتيًا بين مكوناته، في وقت تلجم هذه المكونات صراعها المصيري مع جبهة أعدائها، في تخلٍّ واضح عن برنامج (أو برامج) الكفاح التحرّري، الذي جعله اتفاق أوسلو ذكرى ماض بعيد، سقطت خلال تطبيقاته، وتحولت المكونات التنظيمية إلى سلطةٍ لا تعتمد على ذاتها أو على شعبها، حتى صارت المصالح الشخصية والزبائنية الموجه الأول لحركة السلطة وحركيتها، بعيدا عن مجريات القضية الوطنية والبرامج الكفاحية؛ وذلك هو السقوط المريع الذي أسقط معه في وهدة عميقة ذاك النهوض الذي راهنت عليه قوى الحركة الوطنية الفلسطينية، وإذ به يسقط، ومعه تسقط القلعة الفلسطينية من داخلها، وقد تسرب إليها الأعداء.
ولأن هذا الوضع لا يتناسب وكفاحية الأغلبية الساحقة من الشعب الفلسطيني، ولا يلبي طموحات المجتمعات الفلسطينية، على اختلاف مواقعها وأماكن وجودها، فقد بادرت فاعليات سياسية وشعبية عديدة إلى أخذ زمام المبادرة لتحركات مختلفة، من غزة وعبر كل المناطق الحدودية للتعبير عن قداسة الأرض وأهميتها، في مجرى الكفاح التحرّري للفلسطينيين كشعب، يواصل كفاحه بكل الوسائل، للتعبير عن تمسكه بأرض الوطن التاريخي الذي كانت فيه فلسطين قبل النكبتين الأولى والثانية، ونكبات محاولة إجهاض التطلعات الوطنية الشاملة. ومن أجل استعادة الوطن كأرض، هو المكان الذي تتجسد فيه روح المقاومة والتحدي، قبل أن يلتهم الاستيطان كامل الأرض المتبقية من فلسطين التاريخية، على امتداد الوطن، كما وعته ذاكرة الأجيال، جيلا بعد جيل، وستبقى تحتفظ به كما على صورته الأولى، لا كما يُراد لتلك الذاكرة أن تصاب بالزهايمر، لتضمحل أو تتقلص لتقبل بدولة مؤقتة، أو دويلة حكم ذاتي، ضمن حدود النكبة الثانية أو بعضها.
وفي رحلة الكفاح التحرّري لحياة الفلسطينيين شعبًا، تؤكد الضرورات التاريخية وليس الحاجات الآنية، أن استعادة الأرض هي الشرط الشارط لإعادة تشكيل الوطن وقيامه، وذلك قبل قيام الدولة أو الدويلة، أو أي حل سياسي تفاوضي؛ فالوضع الراهن ليس مناسبا على الإطلاق لاستمرار الرهان على وهم (أو أوهام) "حل الدولتين"، في ظل الرفض الإسرائيلي والدعم الدولي لـ(إسرائيل) باعتبارها كيانا كولونياليا، وظيفتها الأساس قيامها بمهام وظيفية ضمن استراتيجيات دول الرأسمال المتوحش في الإبقاء على نمط استعماري معولم، تخطى الحدود وتجاوز القارات، وهو يرسي أنماط هيمنة متجددة، تلعب في غضونها إسرائيل وبعض الكيانات الوكيلة أدوارا لا يستهان بها، وبإمكاناتها، في إضافة ريع الكميات الأكبر من ثروات النفط والغاز إلى احتياطات وخزائن إمبريالية، عولمت كل أساليبها وطرائقها في النهب، والاستيلاء على ثروات الآخرين، وفي الوقت نفسه، إجهاض ثورات الشعوب.
وحتى لا تستمر الرهانات المغالية في "تفاؤلها" إزاء التسوية، ينبغي نفض الأوهام ونقضها، كل أوهام التصورات والتهيؤات الحالمة عن حل أو حلول باتت وشيكة للمسألة الفلسطينية، هذه الحلول لا آفاق لها، ولا رصيد البتة حتى اللحظة، وهي بعيدة، ولكن أقرب منها تلك المحاولات التي ينبغي أن تبقى دؤوبةً، لتهيئة أرض الصراع لكل الاحتمالات؛ حتى الديمغرافي منها في عقد أو عقود مقبلة. وقد تسببت معطيات حول أعداد الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، في إيجاد مخاوف إسرائيلية، بعد أن تبين أن الفلسطينيين يتجاوزون بأعدادهم، أو يتساوون مع اليهود في المنطقة بين البحر المتوسط ونهر الأردن. بعد أن نقلت ما تسمى الإدارة المدنية الإسرائيلية، أن هناك خمسة ملايين فلسطيني مسجلون في الضفة الغربية وقطاع غزة، من دون أن يشمل ذلك الفلسطينيين في شرق القدس.
واعتبر أعضاء كنيست من اليمين الإسرائيلي إن من الأخطاء الاعتماد على المعطيات الفلسطينية. ولكن عضو الكنيست من حزب "هناك مستقبل" المعارض، أوفير شليح، دعا إلى "مواجهة الحقيقة". ونقل عنه قوله: "الكل يقول إنه بالكاد توجد أغلبية يهودية بين نهر الأردن والبحر، حتى لو أخرجنا مليوني مواطن من غزة من المعادلة، فإننا نحصل على أرقام تعني شيئًا واحدًا: إذا لم ننفصل عن الفلسطينيين، فلن تكون إسرائيل قادرةً على أن تكون يهودية، وهذا يعرّض الرؤية الصهيونية للخطر".
وفي ضوء المعطيات الديمغرافية، لا يبدو أن (إسرائيل)، ذاك الكيان الغاصب والإحلالي، ستبقى موقعًا مريحًا ليهود العالم، وهي تمضي من مسار انحداري إلى آخر، سماته الأساس مواجهة مزيد من التحديات الداخلية والخارجية الأكثر تعقيدًا. وبحسب وثائق إسرائيلية أكاديمية وإعلامية، يعاني المشروع الصهيوني من إشكالية ديمغرافية مرتبطة بالهجرة اليهودية المعاكسة من (إسرائيل)، إذ أظهرت تقديرات نُشرت أخيرا أنّ ما بين 700 ألف و750 ألف إسرائيلي يعيشون خارج (إسرائيل)، يقيم 60% منهم في أميركا الشمالية و25% في أوروبا الغربية. كما تفيد معطيات دائرة الإحصاء المركزيّة بأن خمسين ألفا من المهاجرين الروس إلى (إسرائيل) في العقد الماضي عادوا إلى روسيا.
وعلى الرغم من الإمكانات الاقتصادية واللوجستية والأمنية الهائلة التي تستثمرها (إسرائيل) في دعم بناء المستوطنات، إلّا أنّ المعطيات تدلّ على فشل المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس في تحسين ميزان التوازن الديمغرافي لصالح المستوطنين اليهود، فبحسب حركة "السلام الآن" الإسرائيلية التي تُعنى بمراقبة الأنشطة الاستيطانية في الضفة الغربية، فإن نسبة المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة تشكل 12% من مجمل السكان فيها، إذ تراجعت من 15% إلى 12%، في حين تبلغ نسبة الفلسطينيين 88%.
أخيرًا، كان قرار قد صدر عن المحكمة الإسرائيلية العليا في وقت مبكر، وقبل إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، اعتراف الولايات المتحدة القدس عاصمة لـ(إسرائيل)، دعا إلى استمرار تطبيق "قانون أملاك الغائبين" الذي كان قد بدأ تطبيقه في أراضي فلسطين المحتلة عام 1948 في الجليل والمثلث والنقب، وانسحابه على الممتلكات الفلسطينية في القدس المحتلة، وشرعنة عمليات المصادرة التي جرت في السنوات السابقة، واستحداث "غطاء شرعي" إضافي للاستيلاء على ممتلكات فلسطينية، بالقانون نفسه الذي سنّته حكومة الاحتلال في 1950 للاستيلاء على أملاك اللاجئين الفلسطينيين الذين طردوا من فلسطين خلال النكبة وبعدها، وهو ما مكّن إسرائيل من مصادرة مئات آلاف الدونمات والممتلكات الفلسطينية، في مدن فلسطين التاريخية وقراها، بحجة أن سكانها باتوا "غائبين"، يعيشون في "دول العدو".
في المقابل، يؤكد إحياء الفلسطينيين يوم الأرض، عاما بعد عام، أن الحضور الفاعل لأجيالهم سيبقى يعاند التغييب القسري الذي تعمل جبهة الأعداء، على اختلاف أطرافها، على تأكيده، عبر سلب الوطن الفلسطيني ومواصلة إفراغه من أصحابه الشرعيين، الحاضرين دائمًا وأبدا، وحتى يعودوا أسياد الوطن وفرسانه، عوض أن يبقوا ضحايا، يجري سلب إرادتهم حتى من الأقربين.