تشكل فعاليات مسيرة العودة شكلا جوهرانيا لطبيعة المرحلة الكفاحية التي تمر بها الحركة الوطنية الفلسطينية، علاوة على أنها عامل إضافي يساهم في إعادة توجيه البوصلة الكفاحية، نحو استعادة زمام مبادأة النضال الجماهيري السلمي، بحيثياته الأكثر شعبية والأعظم قوة وتأثيرا. كما تطرح تحديات هي الأكثر توجها للذات الجمعية، في مغالبتها صنوف وصروف الظروف والمعطيات التي تقلبت خلالها وعبرها أحوال المشروع الوطني في مختلف المراحل؛ منذ بدئه أداة مسلحة في منتصف الستينيات، حتى الاضطرار لتبني المفاوضات "نهج حياة" قتلته حكومات الاحتلال الكولونيالي، مرورا بالانتفاضات الشعبية واتفاقات أوسلو، بكل محمولاتها التكبيلية، وما راكمته من معيقات ومعوقات تفتيت الحركة السياسية والفصائلية والشعبية لما يفترض أنها قوى المشروع الوطني؛ وصولا إلى انكشاف الوضع القيادي وسلطتيه واتجاههما نحو إقامة صروح مصالح خاصة، وشخصية زبائنية الطابع، وجهتا تحدّيهما الرئيس لغير اتجاه العدو، بقدر ما عانى ويعاني الوضع الوطني برمته من فلتان الزمام القيادي، داخليا، وفلتان الدعم والإسناد العربي والإقليمي، وفوضاه التي غالبا ما غلّبت انحيازاتها الفئوية الخاصة على حساب قضية شعبٍ يروم استعادة وطنه، ويكافح من أجل عودة لاجئيه إلى أحضان الوطن؛ لا إلى دويلات المنافي الجديدة، بإشراف الاحتلال ومنسقيه الأمنيين.
ولهذا، كان لا بد من رمزية وطنية، تقود كفاحا شعبيا مدنيا، فكانت مناسبة يوم الأرض المنطلق الذي جمع أشتات الفلسطينيين جميعا، في مسيرتهم التاريخية نحو الوطن، بأمل تخليصه من براثن الاحتلال، وما أفرزه من مكبلات ومعيقات سلطوية أضحت تتقدّم سردية الدفاع عنه، على حساب تلك السردية الوطنية الجامعة للكل الفلسطيني، واتفاق هذا الكل على الرواية الوحيدة الصحيحة التي أكدت، وستبقى تؤكد، تماما أن الوطن الفلسطيني بحدوده التاريخية هو وطن الفلسطينيين، وأن ليس لهم منذ البدء أكثر من رواية للنكبة التي بدأت عام 1948، وهي تستمر، هي ذاتها الرواية العصية على التزوير أو التحريف، على الرغم من اتجاهات البيئتين، الإقليمية والدولية وتوجهاتهما، تخفيفا عن كيان الاحتلال الكولونيالي الإسرائيلي، ومن وقع جرائمه وكوارثه النازلة بحق الفلسطينيين، وهم وحدهم بمجموعهم، في ظل التخلي عنهم، الأقدر على معالجة آثار نكبتهم، وما واكبها ويواكبها من نكباتٍ صغرى أحاقت بمجريات كفاحهم ومسيرتهم التحرّرية التي تآكلت بفعل "سلطويةٍ داخليةٍ"، وتواطؤ سلطويات إقليمية عربية وغير عربية ودولية، تجمع اليوم على صفع أساسات المشروع الوطني الفلسطيني، وتقف في مواجهته إلى جانب العدو.
وإذ كان ويكون الرد الشعبي الفلسطيني، عبر إحدى أكثر الوسائل الجماهيرية المتاحة نجاعة، فإن تفجر مظاهر المقاومة الشعبية الفلسطينية الراهنة، وتنويع فعالياتها على مدار الأسابيع المقبلة، يقدم فرصة للحاق القوى والفصائل المنظمة بما يجري، ومحاولة تأطيره ضمن فعالياتٍ شعبية أعمق، تجذّر التحركات الشعبية، لا لتعمل على إجهاضها، حفاظا على سلطة المصالح الخاصة، في حال أفلت الزمام من يد الجميع. ومن الطبيعي في هذه الحال أن تبلور مقاومة شعبية بهذا الزخم، قيادات ميدانية توجه حراكات الأفراد والمجموعات والجماعات المنخرطة في عمليات المقاومة، وتنظمها وترشدها، على أساس خدمة الهدف أو الأهداف الأساسية المحددة لبرامج الحراك والفعاليات التي يمكن أن تتطوّر، أو تتراجع نظرا لطبيعة القوى غير المتناسبة، وردود فعل العدو التي يمكن أن تتصاعد بمستوياتٍ قياسية، ليس في ما هو مباشر من مواجهات حدودية، بل وفي إيذاء وإيقاع أضرار في العمق، حيث الخزان والاحتياط الشعبي والرافد الأساس لقوى المقاومة الشعبية المنظمة.
ما يجري اليوم على امتداد الأرض التاريخية للوطن الفلسطيني حال من استعادة روح الانتفاض الشعبي، تعبيرا عن تأكيد تبني خيار المقاومة الشعبية استراتيجية بديلة، تهدف إلى استمرار فعاليات التحرر الوطني في تعدّديتها، إلى جانب أشكال أخرى من الكفاح، جرى هجرانها من دون أن يتحقق أيٌّ من أهداف الحركة الوطنية الفلسطينية، بمجموع قواها من الجليل والمثلث والنقب، مرورا بالضفة الغربية، وصولا إلى غزة. فكانت مناسبة يوم الأرض هذا العام دافعا رئيسا لتكتيل جهد الفلسطينيين بمجموعهم للانتفاض في مواجهة الاحتلال، وحكومته الكولونيالية، ومن يشد من أزرها دعما وإسنادا وتطبيعا ونيات حسنة. وقد حان الوقت، في مواجهة حلقات التآمر وجهود التصفية بغطاءاتها الإقليمية والدولية، أن يتكتل الجهد الفلسطيني الشعبي، أولا حول أهداف إفشال "صفقة القرن" الترامبية، وما تهدف إليه من محاولة إنجاز تصفية القضية الوطنية للشعب الفلسطيني، إلى جانب تطويع الأنظمة الرسمية العربية، وجعلها تقبل وجود إسرائيل "دولة جارة" تستحق التطبيع معها وإقامة علاقات اقتصادية وتجارية وثقافية معها، غاضين النظر عن أين تقيم إسرائيل هذه كيانها الكولونيالي، ومن تضطهد من الفلسطينيين والعرب الآخرين، بمجرّد وجودها على أرض عربية، وهي الكيان الاستيطاني الاستعماري العنصري المدعوم غربيا.
في مواجهة التخلي العربي إلى حد الطعن بالظهر، وتصديق أو المصادقة على مغالطاتٍ تاريخية بشأن الأرض الفلسطينية، وإعطاء (إسرائيل) صك براءة من احتلالها الوطن الفلسطيني كله، بمزاعم توراتية زائفة، ومنحها "حقا" ليس لها في أرض الآباء والأجداد، حان وقت اعتماد الفلسطينيين على ذاتهم الجمعية، لمواجهة الاحتلال الكولونيالي العنصري، وتخليص الأرض من براثنه، عبر مقاومة شعبية منظمة ترتدي طابعا ثوريا كفاحيا وتحرّريا، بدلا من حال الاستجداء والسقوط في فخاخ الصفقات والانحياز إلى سلطوية المناصب وتقديس الانقسام السياسي والجغرافي، بعيدا من الأهداف الوطنية العليا وهجرانها، والمضي في سياسات "الستاتيك" الأوسلوي، وما جرّته من تربية الأجهزة الأمنية "الدايتونية" على التنسيق مع قوات الاحتلال، في وقت تبلغ الحركة الشعبية فيه رشدها ووعيها، وها هي تستعيد أسلوبا في الكفاح، شعبيا بحق، تقوده ميدانيا، لا بشكل أوامري، قوى شعبية تؤكد تمثيلها شعبها عبر قيادتها له في الشارع، تتمرّن معه على أشكالٍ من إبداع مقاومة شعبية طويلة المدى، أو هكذا ينبغي أن تكون؛ قبل أن تبلغ أهدافها المرحلية التي تفتح طريقا استراتيجيا كذلك نحو بلوغ الأهداف النهائية، كانتزاع أرضٍ وعودة اللاجئين إلى ديارهم وممتلكاتهم.
في مطلق الأحوال، ينبغي أن تؤكد فعاليات "مسيرة العودة"، وما تُحدثه من استعادة روح كفاحي إبداعي مجرّب، إعادة الاعتبار لكل مشتركات الكفاح التحرّري التي أسست لانطلاق المشروع الوطني الفلسطيني، قبل انحراف بعض قواه، وتحول هذه إلى مجرد أيقونات سلطوية أمنية، لا تجد ضالتها إلا في ما يخدم الانقسام السياسي والجغرافي، بما يعنيه من مصالح شخصية وفئوية ضيقة، بعيدا عن محدّدات الكفاح الوطني التحرّري، وخاصية القضية الوطنية للشعب الفلسطيني وخصوصيتها، وعنوانها الأبرز: الأرض وحق عودة اللاجئين إلى وطن الآباء والأجداد، وبعدها تكون قيامة الدولة، لا العكس، كي لا نضع العربة أمام الحصان.