فلسطين أون لاين

المُسوَّدة

اصطلح مُدرِّسو الرياضيات على أنّ كتابة خطوات الحلّ الصحيحة تؤازر النتيجة الخاطئة وإن لم تجبرها، ليس فقط لأنها تشغل حيّزَ الإجابة، لكن لكونها تشـرح للناظر محاولاتك الحقيقية لبلوغ المطلوب حتى وإن انقطعت بك السبيل قبل تمامها. رُبّما كان -لذلك- أجرُ المُجتهد (الحقيقي) محفوظًا من الناحية الشـرعية، وإن أخطأ، اعترافًا بحقّ المحاولة في التقدير.

في سياقٍ قريب، فقد قابلتُ سؤالًا مُضطرِبًا من أحدِهم ذات مرةٍ حول العمر الذي سيُحاسَبُ عليه المرء: هل هو الجانب المستقرّ ذو المنسوب الإيماني المعقول، أم الجانب المُضطرِب ذو المنسوب المنقوص، أم أّنه شيٌ ثالثٌ يجمع بين هذا وذاك؟

تحمل فكرة المُسوَّدة، على ما فيها من المصلحة الرياضية، بُعدًا إنسانيًا ذا بال، فهي تتعامل مع الأخطاء والعثرات لكونها شيئًا داخل الحالة الاجتهادية لا خارجها، وجُزءًا من الإجابة المطلوبة مهما كانت عاجزةً عن إدراك النتيجة، فكلّ التعثرات والاستدراكات معطياتٌ مُعتبرة في التقييم الأخير.

رُبّما نذهب بعد ذلك إلى سؤالِ الرجل؛ لبيان أن العمرَ الذي يدخل في نطاق المُحاسبة: هو كلّ العُمر الذي دخل به التجربة منذ أن جرى عليه القلم حتى النَفَس الأخير.

اقرأ أيضاً: متوسط عمر الإنسان يتجاوز 90 عامًا بحلول 2030

نعم يختلف القياس الأُخروي وناتج الحِسبة النهائي مع اعتبارات المغفرة والعفو الإلهيين وإرادة الله الخالصة في تحديد المصير، لكن في الدنيا فإن المُسوَّدة الإنسانية ستحتفظ بكل المحاولات مهما كانت درجة التدارك، وهذا ما يُسمى بكلماتٍ أقل: النُضج والخبرة.

ففي كلِّ الحالات أنت ناتج معادلة حيّة من المجموعات وعلامات الطرح، تلك العلامات التي تُخبرك مع كل سقطة كيفية أن يكون السلبُ إيجابًا، وأن تلك المُعادلة مُستمرّة باستمرار نَفَسِك داخل صدرك على هذه الأرض لكن، وكي تأتي النتائج في الطرف الآخر من مُعادلتِك بأفضل الأرقام المُوجبة، فإن الأمرَ يحتاج كثيرًا من الصمت، وكثيرًا جدًا من التأمِّل بعد ذلك.

أما الصمت فلإنه حاجتك المرحلية للتوقّف عن الانخراط في السطحيات، وأمّا التأمّل فلكونه زادك في الترحال لما وراء عينيك. والمرءُ يتأمّل في خلق اللهِ تارةً، وفي عبادِه تارةً، وفي نفسِه تارةً أُخرى. فيأخذ من تأمّلِه الأوّلِ صفاءَه، ويصفعه من الثاني كَدَرُه، ويستنتج من الثالث شيئًا من الاتزان بين الأمرين. فحين يتأمّل الإنسان في الطبيعة فإنه يتأمّل ما وراء الصمت، وحين يتفحّص النفوس فإنه يستنبط ما وراء الكلام، لكن حينما يسبح في ذاتِه فإنه يغوص خلف نفسِه ليستنطق صمتَها ويعرف حقيقة ما تقوله من الكلمات.

حين يتأمّل المرءُ ذاتَه فإنّه يقف بين صورتين إحداهما مرّت وانقضت، والثانية في طورِ المرور، فينظر إلى نفسِه بنفسِه؛ ليشهد إدراكه لمن سبقه يومًا، ويُبصـر مكانَه الذي تركه مع آخر أدركه قبل قليل، فيعلم أن شيئًا لم يكن يدعو كثيرًا للانبهار بمن كان يسبقه، وأن تواضعًا وعونًا جديران أن يُلْحقا بمن أصبح دونه، وأن الأمر لا يعدو كونه ترحالًا تتبادل فيه الأدوار، وأن العبرة ليست باحتلال المكانة بقدر ما هي في أداءِ أمانتِها.

بكثيرٍ من الصمت، وبقدرٍ أكبر من التأمّل: يقف الإنسان على مُسوَّدته بعين طائرٍ تجاوز نفسَه إلى الأعلى، ليرى حاضرَه وماضيه، فيعلم أن ما كان يُحزنه يومًا قد مضى لكنّه ترك الأثر، وأنّ ما أسعده حينًا قد خبا بعدما أناره وانقضى. فيُوقن في كونِه رحّالًا لا ينقطع به الطريقُ حتى ينتهي، ويُدرك أنّ كل هذا جُزءٌ من الرحلةِ التي تحتاج التجاوز والمرور أكثر من حاجتِها للبكاءِ والوقف.

هكذا، حين يُبحرُ المرءُ في مُسوّدتِه فإنه يُعيد ترتيبها قبل العرض الأخير للتقييم، ولكنّه في كلِّ الحالات لن يخسر بقدر الذي سيجنيه، فهو في التقييم بين مغفرةِ اللهِ وعفوِه: مُتداركًا مُسوّدتِه، مُراجِعًا الشطبِّ الذي أيقن بخطئِه، ومصحِّحًا ما انبغى له التصحيح. وهو فيما قبل العرضِ مُصقولٌ بما أثقله يومًا فأوقعه، وناضجٌ بما استدركه فيه من التيه.

رُبّما يتكرّر اللقاء ثانيةً بيني وبين السؤال أعلاه، ليسألني الرجل عن العُمرِ الذي سيُحاسب عليه، فأُجيبه أنّ المُسوَّدةَ كلها تحت التقييم، وأنّ لك منها في الدنيا ما أدركت، ولك بها في الآخرةِ ما استدركت، فإن خِفت تقصيرَك فارجُ رحمتَه، وهو العفوُ الكريم.