جرت العادة مع بداية كل عام أن تصدر المؤسسات البحثية لدى الاحتلال سرداً لما ترى أنها قائمة بأهم المخاطر السياسية، والتهديدات الأمنية، والتحديات العسكرية التي تواجهها، وتشكل عصارة جهود لطواقم وفرق عمل على مدار الفصل الأخير من العام المنصرم، ولعل معظم تقديرات السنوات الماضية شابها كثير من التكرار، مع بعض الإضافات في التحرير والصياغة لا أكثر، وبدون مبالغة.
لكن الوثيقة الصادرة عن معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب في الساعات الأخيرة، تكتسب أهمية استثنائية شكلًا ومضمونًا، ولأكثر من سبب، لعل أهمها أن المركز يعد خزان التفكير الأساسي للاحتلال، صحيح أنه ذو طابع مدني أكاديمي، لكن كادره ورئاسته من الجنرالات وكبار الضباط المتقاعدين من الجيش وأجهزته الاستخبارية، مما يمنح تقاريره خصوصية تحظى بمتابعة دوائر القرار لدى الاحتلال ذاته، فضلًا عن حلفائه وأعدائه على حدّ سواء.
جاء رصد التهديدات المحدقة بالاحتلال هذه المرة، على ذمة معهد INSS، عبر تصدّر برنامج إيران النووي، والإضرار بالعلاقات مع الولايات المتحدة، والانفجار الوشيك على الساحة الفلسطينية، كونها أكثر التهديدات خطورة على الاحتلال في العام الجديد 2023، وقد تبين له ذلك من تحليل شامل للبيئة الإستراتيجية المحيطة بالاحتلال، وتضمنت التهديدات والفرص المحتملة فيها.
التهديد اللافت هذه المرة الوارد في التقدير الإستراتيجي الإسرائيلي ذو طابع داخلي، ويتعلق بتفاقم الاستقطاب الاجتماعي الإسرائيلي، ما قد يتسبب بإضعاف الحصانة الاجتماعية، وإمكانية انتقال الأمور من الخلاف السياسي إلى الانقسام الذاتي، ونشوء مزيد من مظاهر تقسيم المقسم، وتجزئة المجزأ، وتفتيت المفتَّت، وهو ما بدأ يتجسد في الأحداث المتلاحقة، التي أعقبت تشكيل حكومة اليمين الجديدة برئاسة نتنياهو.
بعد طي صفحة التهديدات، ينتقل معدّو التقدير الإسرائيلي إلى البحث في جملة الفرص المتاحة أمام الاحتلال على قلّتها، ومن أهمها توسيع التعاون في مجالات الدفاع والاستخبارات والتكنولوجيا مع الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، والشرق الأوسط، وزيادة حجم الصادرات، وتطوير الصناعة العسكرية، واتخاذ إجراءات فعالة للحفاظ على العلاقات الخاصة مع الولايات المتحدة، والتنسيق الوثيق والحميم معها بشأن ملف البرنامج النووي الإيراني، لمواجهة التهديدين الأول والثاني.
عند تفحّص الفرص القائمة لمواجهة التهديد الثالث، تظهر الحاجة الإسرائيلية للحفاظ على الاتصال مع قيادة السلطة الفلسطينية، بالتزامن مع ما تواجهه من فرضيات تتعلق باليوم التالي لغياب أبي مازن، أما الفرص القليلة الخاصة بالتصدي للتهديد الرابع، فتتمثل في الحفاظ على نظام التوازن الحاكم في دولة الاحتلال، مع التركيز على استقلالية النظام القضائي، على الرغم من أنها توصية قد لا تجد من يشتريها مع مضيّ الحكومة قدمًا في تحقيق الانقلاب القانوني الجاري، على الرغم من كل التحذيرات.