فلسطين أون لاين

رحمةُ ربّنا المطلقة

لسنا هنا في معرضِ الحديث التفصيليّ عن رحمة ربنا سبحانه التي سبقت غضبه، والتي يطمع فيه كل مخلوق، لم يقنط منها صاحبُ سجلاتٍ تسعةٍ وتسعين أُترعت معاصيَ، ولا قاتلُ مئةِ نفس ليس له في رصيده إلا توبةٌ صادقة بعدها مع نيةٍ وعزيمةٍ لمغادرة أرض السوء، كما لم ييأس منها آمِرُ بنيه أن يحرقوه وينشروا رمادَه في برٍّ وبحرٍ لا يحمل في قلبه إلا خوفُ الله وخشيتُه، ولا البغيُّ التي سقت كلبًا فشكر الله لها فغفر لها؛ فاجتماعُنا على قلب أتقانا لا يزيد في ملكه شيئًا، واجتماعُهم على قلب أشقاهم لا ينقص من ملكه شيئًا.

هو الرحمن القائل "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ" هكذا عمومًا، لكنّه قبلها مباشرةً علّق العذاب لمستحقيه على مشيئته سبحانه "قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء"، وحتى لا يتساهل امرؤٌ فيظنّ أنّ بإمكانه ووارده أن يصنع ما يريد في الدنيا من أمور الشرّ والمعاصي والاعتداء على خلق الله، ثم إنّ رحمة الله ستشمله؛ فإنّ آية الرحمة الربانية العظيمة هنا وضعت ضوابطَ واضحةً لمستحقيها، على نحو ما يلي:

أولًا: التوبة المستمرّة، والمبادرة إلى الاستغفار تحت شعار "إِنَّا هُدْنَـا إِلَيْكَ"؛ رجعنا، وأنبْنا، ونتذلّل إليك، ونتوسل بك إليك، أن ترحم قصورنا وضعفنا، وتغفر زلّاتنا وهفواتنا، وتلطف بنا في عِلّاتنا ولوعاتنا، وتهدّئ روعاتنا، بهذا الاتصال المستقيم بك متابًا وإنابةً بصدقٍ وخشوع.

ثانيًا: الدعاء "وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ"؛ طلبوا الراحة المرضية لربنا في الدنيا ليكون سلوكُهم ولسانُهم وعطاؤُهم ووصالُهم مع غيرهم حسنًا، لكنهم أطلقوا الأمر مع الآخرة ولم يقولوا (وفي الآخرة حسنة)، معبّرين عن طمعهم الكبير في عطاء الله وبركاته بأن تكون حسناتٍ لا حسنةً واحدةً، ومدلّلين على عظيم توقيرهم وتبجيلهم لربهم سبحانه وتعالى أنه سيعطيهم ويدنيهم أكثر من مطلوب لسانهم ومؤمَّل وجدانِهم، وأنّ ما ينتظرهم منه في الآخرة إن زرعوا الخير والطاعة في الدنيا سيكون أجملَ وأكملَ.

ثالثًا: ذكرت الآيةُ ثلاثية الاستحقاق لرحمة الله سبحانه؛ بتصويب العلاقة مع الله والنفس والناس:

"فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ"؛ الذين يجعلون بينهم وبين المعاصي وقاية، ويجعلون بينهم وإيذاءِ الناس حواجزَ وموانعَ، ويتّقون بغرسهم الخيرَ واستقامة الروح غضبَ الله عليهم دنيا وآخِرة، ويتّقون وسوسةَ الشيطان بالترقّي المستمر في مراتب الإيمان والحفاظ عليه، فلما كانوا كذلك استأهلوا أن يجعل الله بينهم وبين النار وقايةً يوم القيامة برحمته سبحانه.

وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ"؛ فليس عملُهم قاصرًا على أنفسهم؛ بل يتعدّى نفعُ خيرهم لغيرهم؛ إذ علاقتُهم مع الناس قائمةٌ على التحابّ والتضامن والتكافل، يسألون عن احتياجاتهم، ويسارعون في إراحتهم، ويبادرونهم بالإغناء ما استطاعوا من غير سؤالٍ منهم؛ لأنّ الراحمَ يشعر بغيره، فاستحقوا بهذا العمل الرحيم من الله أن يزكّيَهم وينمّيَ أعمالهم وأجورهم، ويخلِفَهم في الدنيا بركات وفي الآخِرة درجات؛ فالراحمون يرحمهم الرحمن، ومن يَرحمْ يُرحم، وستجد أنّ المتصدَّق عليهم من أسباب رحمة الله لهم من كثرة ما يدعون ويرجون لهم أحسن شيءٍ وأفضلَه وأجملَه؛ فما أجملَ هذه من مرحمة يسوقها الله لعباده الطيبين!

"وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ"؛ لما عبّر الجزء الأولُ من هذه الثلاثية عن نظافة الباطن في الذات، والجزءُ الثاني عن استقامة الظاهر، جاء هذا الجزءُ ليعبّرَ ويدللَ عن استقامة الداخل بصدق التوجّه لله سبحانه إيمانًا وتصديقًا وعدم شكّ ولا تردّد؛ فهم بهذا الاعتبار يؤدون جميع ما أمرهم الله به أن يكونوا في سياقه، فطوبى لهم وحسن مآب.

المصدر / فلسطين اون لاين