"فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ" [الشعراء: 45]. تنقل لنا الأحداثُ المعروفةُ المشهدَ الذي سبقته "كولسة" أزلام فرعون لعمل رأيٍ عام موجَّهٍ نحو القَبول بما يصدرُ عن سحرته، إلا أنّ الأعجبَ في هذا الموقفِ نفسِه لمّا التقى الجمعان، وكان السحرُ العظيمُ واسترهابُ الناس وإيهامُهم أنّ ما يرونه حقيقةٌ رغم أنهم كانوا "منوَّمين مغناطيسيًّا" بكلام السحرة ومفتونين بمكانتهم التي على مستوى البلاد، فكأنهم كانوا على استعداد أن يكونوا مجرورين من عقولهم فلا تكون في رؤوسِهم بل في أيدي التوجيه الساحرة، ويكونوا مقودين من عيونهم بحيث يعيرونها عيونَ السحرة أنفسِهم، فكانوا جميعًا اتحادَ نفسٍ واحدة على باطلٍ واحد، اجتمع معه أنّ بعضهم أكّد لآخرين معهم من الحضور فكوّنوا انطباعًا عامًّا من هذه التهويلات الهابطة الباطلة، هذا فضلا عن أنّ الإعلام كان كلُّه مسخّرًا قبلُ وموجّهًا في سياق حكمٍ مسبقٍ يحمل شعار "لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ" [الشعراء: 40]؛ إذ السامع تصلُه ببهرجةِ الإعلاميين أذناب الفرعون "سوف نتبع السحرة؛ لأنهم سيكونون الغالبين".
ولماذا نركّز على مشهد التقاء الفريقين هنا؟ لأنّ المؤمنين بربّهم ربما تجد فيهم من يقول: إنّ هؤلاء أهلُ باطل، وإنّ انتهاءَ أمرهم وانكشافَ حالهم سيكون سريعًا، وإنّ الله لا بدّ مبطلُ كيدهم وسحرهم! يقولون هذا؛ ليغطّوا على خوفٍ محتمَل، أو كسلٍ داخليّ، أو تواكلٍ محض، لكنّ الآيةَ تخبرنا عن سنة كونيّة، وهي أنّ الباطلَ حتى وإن كان يحمل في طيّاته أسباب نهايته إلا أنه لا يزول إلا بمزيلٍ، ولا ينصرف إلا بصارف؛ إذ لا يتهاوى هكذا وحده، رغم الظلم والقهر والكفر والسفالة والانحطاط التي تمثل شعاراتِه النظريةَ والعمليةَ؛ فلا بدّ أن تأتيَ قوةٌ أخلاقيةٌ أعظم، حتى وإن كانت في العَدد والعُدد أقلَّ إلا أنها تستطيع وَفق فهم هذا الناموس أن تضع يدها على بيت العنكبوت الأصل فتزيله وتكنسه، ولا يتأتّى هذا لقاعدٍ في بيت ولا نائمٍ في فراش، وهذه الحركةُ كفيلةٌ بأن تزيل الغشاوة عن عيون المسحورين، وعن عقول المنتعَلين بإعلام الظالمين، بل وستجد أنّ هناك استعدادًا تحركه الفطرة عند كثيرين ليكونوا معك جندًا في جيشك وسلاحًا على عدوِّك مخدومِهم في أمسِهم، وكلّما كانت المعرفة أرقى كان الوصولُ إلى الحقيقة والالتحاق بدربها أسهلَ وأسرعَ كما كان من السحرة الأكبر مطلقًا على مستوى "الجمهورية" أو "الفرعونية" لا يهمّ، المهمّ أنّ الذكرى الموسوية حرّكت فيهم إيمانَهم النائمَ وأيقظته ليعودوا إلى رشدهم ويحاربوا مباشرة فرعون غير آبهين بتهديداته ولا متأثرين بما ينتظرهم من مقتلة مؤكدة.
فهل تظنُّ بعد ذا أنّ كنسَ اليهود من أرضنا تكفيه دعواتُ المحاريب وحدها، وأمنياتٌ صادقة فحسب، وقراءةُ تاريخٍ دون استفادة واقعيةٍ منه؟!
وإيّاك أن يكون توجّسُك خيفةً من الباطل وقوته سببًا في عدم إلقائك عصا قوّتك والتجائك إلى ربّك وأخذك بالأسباب العلمية؛ إذ عصاك شمسُك التي ستقشع سراب المبطِلين، واستعانتك بربك مصدر إضاءتها، فألقِها تلقف ما يأفكون.