فلسطين أون لاين

التستّرُ بالألقابِ العلمية!

أعرف رجلًا من المميزين جدًّا في تخصّصه، المتمكّنين من خباياه وزواياه، العالِمين بأحواله وتضاريسه، لا تكاد تأتيه بسؤالٍ إلا ويتحفُك بإجابةٍ شافيةٍ ووافيةٍ مع أخواتٍ لها يولدْن في سياق الكلام؛ فيصدِرُك وأنت سعيدٌ منشرحَ الصدر منفتحَ الفكر قويًّا متينًا، فليس كل ما تريده يمكنك الحصول عليه من الكتب مباشرة، أو من تقليبات أصابعك في مبحوثات العنكبوتية، وصدق من قال: ضلّ من كان شيخُه كتابَه، ومن اعتمد على كتابِه كان خطؤُه أكثرَ من صوابِه، وبالضرورة فمن اعتمد على النّت لم يميّز بين الرزّ والفتّ!

لا تخطئُك الحقيقةُ ولا يتجاوزك الواقعُ إذا قلت إنه موسوعةٌ أو يكاد! لكن من عجب الأقدار أنه ليس في جعبة سهامه الكرتونية إلا ورقةٌ واحدةٌ هي الشهادة الجامعية الأولى، وأقول من عجبٍ لأنّ الحظَّ لم يسعفه، أو لعلّه المال لم ينصَع له، أو تقديمه أهلَه على نفسه، أو لأيّ سبب آخرَ لم يستطع أن يكمل دراساته العليا التي كان راغبًا فيها، فقد جاءته تسعى لولا أنها أغلته مهرَها.

لم يفقد ثقته بنفسه مرةً، ولم يحجبها عن مريديه، ولم يمتنع عن الإجابة بأي طريقة مباشَرة أو مسموعة أو مكتوبة، لأفرادٍ أو لمجموعات.

لكنّه أسرّ لي ذات مرة أنّ فلانًا يلحنُ في بدهيّات النحو، فكيف حصّل شهادته في هذا التخصص الفحل، ولقد قدّر ربُّنا أن نجتمع مرة وطُرحت موضوعات للنقاش فوجدتُه دونَ السطحية وفوقَ الضعف، ولعلّه لو تواضعَ واعترف وأقرّ لكان الأمر سهلًا ومقبولًا، فكم ضعيفٍ حملته أموالُه أو ظروفٌ معينة فأوجدته في مكانٍ لم يتصوّره، لكنه يعلم أن سيفَه خشبيّ فيتواضعُ تواضعَ الأذكياء الفاهمين الأوفياء في حضرة من يقرّ لهم بالتقدّم عليه غيرَ ناظرٍ إلى رتبةٍ ولا راتبٍ ما دمنا غيرَ ناظرين إناه، ولا يتطاول على الناس بإراقة دمائهم إذا تجاوزوا لقبه ولو نادوه بكنيته، ويصير يستحضر تاريخًا عجيبًا من البطاطا المهروسة في الكدّ في الحياة والبندورة المنقوعة في تعبه المدَّعى حتى وصل إلى ما وصل إليه!

وما أراه أوفقَ مع الصواب وأحظى لسموّ الروح والبقاء على صفاء القلب ألا يكون استخدامُ الألقاب العلمية إلا في السياقات الرسمية جدًّا ومع إقلالٍ كذلك، ومثل هذا يُقال فيه "لا تنفق، ولا تخشَ من ذي العرش إقلالًا"، ولا تجعل اللقب يستحوذ عليك تستحضره في رسائل جوالك، وكل تغريداتك وكتاباتك، كأنك تقول لنا لا بلسانك: حاذروا ألّا تنادوني باللقب، وإن لم تذكروا اسمي الذي سماني به أبي!

وما رأيتُ امرأً يركّز هذا التركيز في لقبه إلا ويحاول أن يغطيَ على شيءٍ من ضعفِه إما بمستوى شخصيته أو على صعيد علمه، لدرجة أنه لا يتّصل أدنى اتصال ولا أخصَّه إلا ويقدّم لقبه على اسمه. هذا كثيرٌ جدًّا.

من تواضع للهِ رفعه اللهُ، والكبيرُ في مجالٍ ليس محتاجًا إلى مثل هذه الاستدعاءات السرابية، والناسُ إن أدركوا حقيقة الراكبِ اللقبَ -وسيدركونها حتمًا يومًا- سيسقط من أعينهم، لكنه لو كان معهم واحدًا منهم مع احترامٍ تلقائيّ غيرِ متكلّف فإنهم سيسندونه ويرفدونه ويزيدونه، ولن يقصّروا أدنى تقصير. اللهم فهّمنا وعلّمنا، وزدنا فقهًا.