"نعم أنا أنوب عن رسول الله، أنتَ قلتَ للمسلمين: "هاتوا محمَّدًا يُخلِّصكم"، وأنا أنوب عن رسول الله اليوم فأخلص المسلمين من شرِّك" صلاح الدين الأيوبي لأرناط بعد النصر في حطين.
الزمان: 583ه.
المكان: سهل حطين بين بحيرة طبريا والناصرة شمال فلسطين.
أطراف الصراع: اثنا عشر ألف مقاتل من المسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي، مقابل خمسين ألف مقاتل من الصليبيين بقيادة أمير طرابلس وأمير الكرك وملك بيت المقدس.
كان الصليبي أرناط الأمير على حصن الكرك في شرق الأردن يحمل عداءً وكراهيةً للإسلام والمسلمين يفوق التصور، فكان يعتدي على قوافل المسلمين المارة من تلك المنطقة، ذلك أن حصن الكرك يتحكَّم بالطرق التجاريَّة المتَّجهة إلى الحجاز واليمن، فضلًا عن وقوعه بالقرب من ساحل البحر الأحمر؛ هذا الموقع الإستراتيجي جعل أرناط بكلِّ صليبيَّته وغروره وطمعه للمال يخطط لمشروع صليبي هو الأخطر في تاريخ الحملات الصليبية على الإطلاق؛ وهو تحقيق السيادة الصليبية على البحر الأحمر تمهيدًا لغزو بلاد الحرمين، والهجوم على المدينة المنورة، ونبش القبر الشريف لاستخراج الجسد الطاهر لسيِّد الخلق والمرسلين، ونقله إلى فرنسا (منبع الصليبية) ودفنه هناك، فلا يُسمح للمسلمين بزيارته إلَّا بعد دفع رسوم كبيرة!
بعد توقيع معاهدة بين مملكة بيت المقدس النصرانية وصلاح الدين الأيوبي مدة عامين، على أن تضمن حريَّة التجارة للمسلمين والمسيحيين، وأن يجتاز أي من الطرفين بلاد الآخر بحرِّية؛ لم يقبل أرناط أن تمرَّ قوافل المسلمين من منطقته دون مقابل، فخرج مع قوَّةٍ كبيرة، إلى الطريق التجاري بين دمشق والمدينة ومكة، واعتدى على قافلةٍ تتجه جنوبًا واستولى على كلِّ ما تحمله من ثروة، وأسر من فيها.
راسل صلاح الدين ملك مملكة بيت المقدس بغضب مذكِّرًا إياه بالهدنة مطالبًا بالتعويض، فخاطب الملك أرناط الذي تعجرف بالرفض، دون أن يتغير الموقف، فقرر صلاح الدين الاستعداد لحرب فاصلة.
فلا بد من القضاء على الوجود الصليبي جذريًّا في بلاد الشام!
عسكر صلاح الدين بجيشه قرب حصن الكرك والشوبك، حين عمد إلى بعث قوَّة استطلاعية سريَّة إلى صفورية (قرية يسكنها الصليبيون بالقرب من الناصرة)، خرجت السريَّة في الهزيع الأخير من الليل، وهاجمت صفورية التي كانت تغط في نوم عميق في الصَّباح الباكر، فاستيقظت هلِعة على صليل السيوف وضرب الرماح، وسارعت إلى تجميع قوتها للتصدي للقوات المهاجمة، التقى الجيشان في معركة طاحنة انتصر فيها المسلمون نصرًا مؤزرًا، وسقط الصليبيون ما بين قتيل وجريح وأسير.
كان هذا النصر بشير خير لصلاح الدين الذي عاجل بالسير بجيشه ناحية العدو، معسكرًا على سفح جبل طبريَّة المشرف على سهل حطِّين، استدرج صلاح الدين الصليبيين إلى مكان محدد وهو يطوف بين صفوف جيشه يُحرِّضهم على الجهاد.
بدأ القتال منذ صباح الجمعة ولم يتوقفوا إلا عند اشتداد الظلام، وعادوا للقتال في صبيحة اليوم التالي، أخذ صلاح الدين يُطوِّقهم بجيشه شيئًا فشيئًا، واستمات المسلمون في القتال وهم يدركون أنَّ وراءهم نهر الأردن، وأمامهم الروم، فلن يُنجِّيهم إلَّا الله.
حاصر المسلمون الصليبيين في أعلى الجبل وعمدوا إلى الاستيلاء على صليبهم الأعظم الذي يزعمون أنَّ فيه قطعةً من الخشبة التي صُلب عليها المسيح، وما إن تمكَّن المسلمون من أخذه حتى أيقن الصليبيون بالهلاك.
بطولات رائعة حدثت في سهل حطين، فيها قُتل وأُسِر صليبيون كُثر، وكان من بين القتلى والأسرى أعظم ملوك الروم وأمرائهم، ولمـَّا انتهت الوقعة سجد صلاح الدين شكرًا لله تعالى باكيًا، وأمر بمخيم عظيم، جعل فيه سريره، وأُوتِي بملوك النصارى في قيودهم ومنهم أرناط الذي كان صلاح الدين قد أقسم أن يقتله بيده.
أجلس صلاح الدين ملوك النصارى بجانبه، وقدم لهم الماء البارد، ما عدا أرناط الذي دعاه للإسلام فامتنع، ثم قال له: "أنت الذي فعلت وفعلت (يذكِّره بجرائمه) ..."، فكان يقول: "هذه عادة الملوك"، فقام إليه صلاح الدين وضربه بسيفه ليخلص المسلمين من شره بارًّا بقسمه.
كانت معركة حطين بداية تحرير الساحل الشامي، وطريق النصر في بيت المقدس.