فلسطين أون لاين

الأسير معمر شحرور: صدق البدايات وتحديات النهايات

لم تبدأ الحكاية في انتفاضة الأقصى.. بل أبعد من ذلك بكثير.. ففي عام ١٩٣٦ التحق جده الحاج شريف شحرور ابن قرية بلعا قضاء طولكرم بثورة ال٣٦ انطلاقاً من جبل المنطار في بلعا بين الأحراش شمال مدينة طولكرم، بارودته في يمينه يقاتل بشراسة، يتنقَّل بين بلعا ونور شمس.. برز بين الثُّوار بشجاعته وإقدامه في مقاومة المحتل الانجليزي بكل ما أوتي بجانب إخوانه الثوار.. هدم الإنجليز القرية، واعتقلوا كل من تمكنوا منه ومن بينهم الحاج شريف.

خرج الحاج شريف من السجن وانتقل للسكن في مدينة طولكرم والعمل نجاراً. وفي عام 1967 عاود الالتحاق بالثورة التي سبقه إليها ابناؤه بسام وشوقي. عمل شوقي عضو في مجموعة مسلحة تتنقَّل ليلاً في دوريات بين الأردن والضفة الغربية عبر نهر الأردن لنقل السلاح والذخيرة، وتنشئ قواعد عسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية في الأردن وتقوم بتدريب الفدائيين على الفنون القتالية بعد حرب عام 1967.

وكان شوقي شحرور أحد أعضاء الخلية العسكرية التي فجَّرت سينما صهيون في القدس وشاركت في العملية أيضاً فاطمة البرناوي، ليُعتقل أفراد الخلية ومنهم شوقي، ويُعتقل والده الحاج شريف كذلك، وتُهدم بيوتهم. أُفرج عن الحاج شريف بعد 4 سنوات وأُبعد للأردن، ومكث شوقي في السجن 18 عاماً.

مضت الأيام بسرعة، وفي ٢١/٩/١٩٧٩وُلد للعائلة طفل مع أذان الفجر، هو الثامن في أسرته، أسماه والده معمر، أدخل قدومه للبيت فرحة عمَّت الأرجاء، ولم يخطر على بال أحد ما كُتب لهذا الصغير في الأقدار.. معمر الذي أخذ يكسب محبة الناس لخفة دمه، ورفعة أخلاقه، وذكائه المتوقد، لدرجة كانت عيونه التي تلتمع ذكاءً وفطنة تجذب الآخرين وتثير إعجابهم.. أما الشريان الأخضر الذي يعتلي أنفه بين عينيه فكان سمة بارزة في وجهه تطبع صورته في الأذهان بمتانة.. لم يعلم أحد آنذاك أنه سيحمل روحه على راحته ويتسلح بعقيدته ليمرغ أنف الاحتلال بالتراب ويسومهم سوء المذلة مدافعاً عن دينه ووطنه.

فتح معمر عينيه على الدنيا على زيارات عمه شوقي في سجن عسقلان، قبل أن يُفرج عنه ويُبعد أيضاً للأردن، ثم على استشهاد عمه بسام شحرور في تونس في القصف الاسرائيلي على مقر القيادة الفلسطينية، وعلى زيارات أخيه الأكبر شريف والشبك الذي يفصله عنه ويمنع احتكاكه به، وغيابه في السجن لسنوات عدة!

منذ طفولته المبكرة ظهرت على معمر سمات القيادة والشخصية القوية والشجاعة والإقدام وبدأ يعي هموم الوطن وقضاياه! فبعد دخوله المدرسة أخذ يجمع طلاب صفه ويصلي بهم في المدرسة، ويشارك برغم صغر سنه في الاعتصامات ووقفات الأسرى برفقة أخواته ووالدته.

4.jpeg
 

في انتفاضة الحجارة كان في الثامنة من عمره، وبرغم صغره شارك في فعالياتها وإلقاء الحجارة على جيش المحتلين، احتجز مرات عدة آنذاك، وما يلبث ويُطلق سراحه بعد فترة قصيرة بعد تحذيرات وتنبيهات.

أنهى الثانوية العامة ودخل كلية الرياضة في جامعة خضوري طولكرم، وحصل على الحزام الأسود في الكاراتيه، وأخذ يُدرِّب الشباب على فنون الكاراتيه في أحد نوادي المدينة. تخرَّج بتفوق من جامعة خضوري، وانتسب مباشرة لجامعة القدس المفتوحة لدراسة التربية الإسلامية، ليبدأ التحول الكبير في حياة معمر!

انطلق معمر في النشاط السياسي، الذي من أجله اقتحم الاحتلال منزل أسرته ليلاً بحثاً عنه، لتُدرك الأسرة أن ابنها الغامض الذكي كثير الحركة ناشطاً ومقاوماً.

الحادث المفصلي في حياته والذي دفعه للانتقام والبروز كقائد ميداني، كان اغتيال صديقه ورفيق دربه الطالب والناشط السياسي عامر الحضيري، كان معمر برفقة عامر حين خرجا من بيت عائلة معمر لصلاة العصر في المسجد، نزل معمر من سيارة عامر أمام المسجد، ومضى عامر ليغير ملابسه في بيته، كانت طائرة أباتشي تتربص به، قصفته بصواريخ ثلاث أدت لاستشهاده واحتراق جسده الطاهر وتدمير السيارة.

واتُخذ القرار بالثأر..

شارك معمر المهندس عباس السيد في التخطيط والتنفيذ لعمليات عسكرية منها عملية مطعم بارك في نتانيا التي قتل فيها 30 صهيوني وجرح 200آخرون ونفَّذها الشهيد عبد الباسط عودة وكانت من أنجح عمليات المقاومة على الإطلاق، وعل إثرها أتخذ المجلس الوزاري في حكومة الاحتلال قراراً بحصار الضفة واقتحامها وقمع المقاومة في عملية عسكرية كبيرة أسماها لسور الواقي.

في تلك الأثناء أصبح معمر شحرور مطارداً من السلطة الفلسطينية والاحتلال، اعتقل المهندس القائد عباس السيد، ثم اعتقل صديقه ورفيق سلاحه المجاهد مهند شريم. وبعد تسعة أشهر من المطاردة وحرب الأدمغة وملاحقة العملاء الذين يرصدون كل حركة وسكنة، ويُسهِّلون على المحتل الوصول للمجاهدين ونشطاء المقاومة، حوصر المنزل الذي يتحصن فيه معمر في ضاحية ذنابة.. أعداد غفيرة من جيش الاحتلال، ودباباته، وطائراته، وقناصته أحاطوا بالمكان.. جيش بأكمله حضر لطولكرم لاعتقال شخص واحد.. إنه القائد معمر شحرور.. الذي تخشاه دولة الاحتلال!

وقبل حصار معمر، اعتقلوا إخوته، ووالدته، وأخته صابرين أيضاً، واقتيدت أخته ووالدته إلى المكان الذي يتحصن فيه؛ للضغط عليه ليسلِّم نفسه.. أخذوا ينادونه في مكبرات الصوت: أمك معتقلة معنا يا معمر.. وأختك كذلك.. سلِّم نفسك.

وجعلوهما في مكان بارز ليتمكن من رؤيتهما.. فتنهار عزيمته!

رفض معمر الانصياع.. فكيف له أن يُلقي سلاحه؟ حتى لو كان وحيداً في مواجهة غير عادلة مع جيش بأكمله مُدجج بأحدث الأسلحة والرادارات والحساسات.. ليس من طبع معمر الاستسلام!

قاوم معمر بكل بسالة تحت وابل الرصاص والنيران.. وكان الاحتلال يتطلع لإغلاق هذا الملف بأي ثمن.. أحضروا جرافات ضخمة تمهيداً لاقتحام المكان وهدم البيت الذي يتحصن البطل داخله.. وضغط الاحتلال على والدته لتطلب منه تسليم نفسه..

وتمكنوا منه في نهاية الأمر.

عزلٌ وتحقيقٌ عسكريٌ طويلٌ وقاسي امتد لأشهر طويلة، حُكم في نهايته بـِ ٢٩مؤبداً إضافة لعشرين عاماً.. زغردت والدته في قاعة المحكمة وقالت للقاضي:" والله ليطلع معمر ويرجع على طولكرم وأجوْزه وإنتو رح تطلعوا من أرضنا"

شدَّت الفرحة إزارها، ورحلت عن بيت العائلة.. أما والده فلم يستطع احتمال الحكم الصادر بحق ابنه، فتعرض لجلطة توفي على أثرها.

ثلاث سنوات من الاعتقال، لم يقع بصره على أحد من أهله، سُمح لوالدته بعدها بزيارته.. صَعُب عليها أن ترى بطلها الشجاع، أسدها الرابض يرفل بقيوده خلف القضبان والزجاج السميك.. ولكن، هذه درب الأحرار.. فإما شهادة أو أسر أو نصر!

لم يوقف الأسر معمر، بل أخذ يتابع دراسته وحصل على درجة الماجستير، وأصبح مسؤول الملف الإعلامي للجنة الطوارئ، وممثل عن حركة حماس في سجن رامون.

الحرية للأسير معمر شحرور.. الحرية لجميع الأسرى والأسيرات.