لم يكن ابراهيم يوماً انساناً عادياً.. أبداً، أتعجَّب دوماً كيف يستطيع استقطاب قلوب الناس وجذبها إليه وكأنه يمتلك مغناطيساً شديد الجذب! قد يكون ذلك لاتزانه الشديد وهدوئه وقدرته على الصبر وعقلانيته التي تجعله يبدو أكبر من عمره الزمني.. قد يكون ذلك!
ذكريات طفولتنا ما تزال تنطبع في ذاكرتي، أعمد إلى اجترارها مرات ومرات يوماً.. خاصة حين يستبد بي الشوق لإبراهيم، والشوق له دائم الحضور وبقوة.. حتى قبل أن تُغيبه المعتقلات وزنازين العزل.. قد يكون الفارق البسيط في السن بيننا هو السر.. صدقاً لا أستطيع الجزم!! ولكن أشعر دوماً وكأننا توأمين بجسدين منفصلين ولكن بروح واحده..
لا أنسى حين ضربني ذات مرة لأني آثرت النوم في تلك الليلة عند بنت خالتي.. وكانت حجته الطفولية المضحكة" أنني ابتعدت عنه، فاشتاق لي.. فضربني!!"
صحيح أنه يكبرني بعام تقريباً وهي فترة قصيرة، ولكنه كان كبيراً في نظري وكأن بيننا عقود خاصة عندما أصبحت فتاة يافعة، غدا إبراهيم في نظري مصدر حماية لا غني لي عنه، بوجوده يحيط بي الأمان والسكينة، حلَّ محل أبي الذي غادر دنيانا باكراً وتركنا خلفه نقارع الدنيا ونتآزر مع بعضنا البعض لعلنا نجتاز دروبها القاسية بسلام..
كل ما يفعله إبراهيم ينال إعجابي ورضاي.. كيف لا وهو أخي.. نعم.. أخي القوي، الذكي، صاحب الإرادة الحديدية، والعضلات الضخمة القوية التي لا تخذله.. أخي يميز الصواب من الخطأ والحق من الباطل ويختار طريق الحق حتى لو كان شائكاً أو مستحيلاً.. ولذلك هو سندي ومرجعي وحافظ أسراري.. أنظر له بعين الإكبار دوماً، حتى في ابتعاده عن التدخين وبغضه له، وإصراره على تناول الطعام الصحي وممارسة الرياضة في كل صباح، والسباحة طوال العام حتى في الشتاء.. ألم أقل لكم؟ إنه بطلي بامتياز ومثلي الأعلى ونجم حياتي بلا منازع!
لم يكنْ يومها قد أتمَ الثامنة عشر من عمره.. لم يداخلني في أيما وقت سابق أن ما حدث كان سيحدث فعلاً.. وستواري الأسوار العالية والأسلاك الشائكة والقضبان أخي.. تيقنت أن في الأمر خطأ ما، حاصر جيش الاحتلال بيتنا وأخذوا ينادونه من الخارج بمكبرات الصوت:" إبراهيم عطية سلم نفسك.. استسلم.. لا فائدة من المقاومة.. ستعرِّض نفسك للخطر"، وكانت انتفاضة الأقصى تضطرم حينها بقوة، والمقاومة الشعبية على أَشُدِّها.. لأستيقظ على حقيقية قاسية" أخي إبراهيم أسير لدى الاحتلال"!
وتتكشف جوانب لم أكن أعلم عنها شيئاً تخصه.. نعم.. إبراهيم كان مقاوماً يترصد المستوطنين أمام جدار العزل العنصري.. ويقاوم الاحتلال بطريقته الخاصة برفقة مجموعة من رفاق السلاح.. قُتلت مستوطنة في المنطقة الشمالية من قلقيلية بعد إطلاق النار على سيارتها وكان لإبراهيم علاقة ما بالأمر، بتفاصيل ما أزال أجهلها حتى الآن..
91 يوماً من التحقيق القاسي خاضها أخي إبراهيم، وكم كان التحقيق قاسٍ وظالم ومتوحش! والعزل سيء الصيت والسمعة، يحاول كسر الأسير وإذلاله وتجريده من إنسانيه.. دون أن يراعي صغر سنِّة أو أي ظروف أُخرى تستوجب معاملته بطريقة خاصة، أما المحكمة الظالمة فحكمت عليه بالسجن لمدة 30 سنة بلا مبالاة، قاضيها ليس هو صاحب القرار، بل ضباط المخابرات الحاقدين الذين يريدون الانتقام من إبراهيم ومن كل فلسطيني يقاوم ظلمهم وغطرستهم.
كانت بدايات الأسر صعبة جداً، خاصة لشابٍ غضٍّ قليل التجربة!!
مُنع إبراهيم آنذاك من الزيارة لفترات طويلة، ونُقل بين سجون عدة ليُحجب عنه الشعور بالاستقرار حتى داخل سجنه، وبعد فترة طويلة، سُمح لفرد واحد من الأسرة زيارته مرة واحدة سنوياً، وكانت دوماً إما أمي أو أنا!! ولكن التزامه الديني وحفظه لكتاب الله أعانه على اجتياز المحنة بسلام.
صمد إبراهيم وثبت على مبادئه، ووضع نصب عينيه أهدافاً لا بد له من تحقيقها، فالأسر ليس نهاية الحياة، بل أحد تحدياتها.. عمل بجدٍّ واجتهاد واجتاز الثانوية العامة بنجاح، ثم عمد إلى الدراسة الجامعية وحصل على بكالوريوس في العلوم الاجتماعية، وحصل على تقدير جيد جداً.. لم يتوقف، بل مضى يحضِّر للحصول على درجة الماجستير.
لمع أمل واعد في الأفق مع اقتراب إتمام صفقة وفاء الأحرار.. هيأ إبراهيم نفسه لمعانقه الحرية.. وفي اللحظات الأخيرة تبين حدوث خطأ في الأسماء.. بقي إبراهيم أخي في الأسر، وخرج إبراهيم آخر مكانه!! وبدأت سلسلة الألم والعذاب النفسي وكأن الأسر قد بدأ في تلك الحظة!
حجم القهر كان لا يوصف، أما التوتر والحزن.. فحدث ولا حرج، وكأننا جميعاً عدنا لنقطة الصفر مرة أُخرى! أُصيبت أُمي بالسكري، وأخذ ضغط الدم يرتفع عندي، وكان لا بد لنا من الصبر والثبات؛ فالابتلاءات والاختبارات لن تكون إلا صعبة، وعلينا التعامل معها واجتيازها بنجاح.. وهو ما كان فعلاً!
ولا أقول إلا الحمد لله على كل حال! واثقة بأن باب السجن لا يُغلق على أحد.. سيخرج إبراهيم بإذن الله، وسيصبح الأسر ذكريات من الماضي ذات يوم.. ففرج الله قريب!