في زاوية من حي الزيتون جنوب مدينة غزة، يجلس محمد اشتيوي صامتًا أمام كومة من الحجارة التي كانت يومًا ما منزله، يتفحصها بعينيه، وتسأل نفسه: متى يمكن أن يخرج رفات 20 شهيدًا من عائلته لا تزال جثامينهم تحت الركام منذ أكثر من عام وخمسة أشهر.
فمع بداية العدوان في أكتوبر 2023، نزح أفراد من عائلة اشتيوي قسرًا من مكان سكنهم في شارع 10 بمدينة غزة لحي الزيتون، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي قصف المنطقة بحزام ناري تسبب في تدمير بيت عائلته المكون من ثلاثة طوابق، وبيتَي اثنين من أعمامه المجاورين لهم.
"لا يزال كثير منهم مدفونًا تحت الركام، كان لدينا أمل في أن تبدأ أعمال الإعمار وإزالة الركام لنتمكن من دفن الشهداء، ولكن مع تجدد حرب الإبادة واستمرار الحصار، تبددت آمالي في انتشال أجسادهم أو حتى منحهم دفنًا لائقًا" يقول اشتيوي لصحيفة "فلسطين".
"لم يعد هناك فرق بين الحياة والموت عندما تعيش كل يوم أمام قبر عائلتك"، يقول محمد بصوت خافت، رغم محاولاته المستمرة لإزالة الأنقاض بيديه العاريتين، يدرك أن المهمة مستحيلة في ظل منع الاحتلال إدخال المعدات الثقيلة لرفع الركام.
توقف الزمن بالنسبة لاشتيوي منذ ذلك اليوم الذي سقط فيه منزله، وتحول إلى رمز للألم والصمود في آن واحد، "كنت أظن أن هذه الحرب في بداياتها كانت الأسوأ، لكنها لم تنتهِ أبدًا، ونحن عالقون تحت هذا الرماد"، يضيف وهو يمرر يده على الجدران المتهدمة وكأنه يبحث عن أثر لعائلته وسط الخراب.
نجا اشتيوي والذي كان قد نزح قبلها بعدة أيام إلى جنوب القطاع وكأن القدر شاء أن يبقى شاهدًا على المصيبة، أُخرج من تحت الأنقاض أبوه وأخيه بعد ساعات طويلة مصابان بجروح وكسور في جسديهما، ولكن الأشد ألمًا كان الجرح الذي لا يُرى، الجرح الذي نُحت في قلبه هو ومن بقي حيًا ذكرى تلك الليلة المشؤومة.
يضيف:" تمكّن المسعفون والمتطوعون من انتشال خمسة من أفراد أسرته وكانوا مصابين، ولكن بقي عشرين آخرين، بينهم أطفال ونساء تحت الركام، في انتظار من يحررهم حتى بعد استشهادهم.
مرّت الأيام، ثم الشهور، والركام ما زال كما هو، يحتجز بين طبقاته جثامين الشهداء، يمنع العائلة من منحهم أبسط حقوقهم، الدفن، ولكن ومع بدء وقف إطلاق النار، تمسّك اشتيوي بالأمل في أن يدخل المعدات الثقيلة، أن تأتي الجرافات والمعدات التي ستُزيح هذا الثقل عن قلبه قبل أن تُزيله عن الأرض.
لكنه اصطدم بجدار المنع من الاحتلال الإسرائيلي، الذي حرم غزة من أبسط مقوّمات الحياة، وترك العائلات تواجه مصائرها وحدها.
اشتيوي بعد عودته من الجنوب خلال فترة وقف إطلاق النار عاد إلى بيته ونصب خيمة على جزء من بيته المدمر يعيش فيها مع زوجته وأبنائه الخمسة يقول:"كل ليلة، أسمع أصواتهم في منامي"، يقول محمد، ودموعه تحفر طريقها على وجهه المرهق. "كأنهم ينادون عليّ، يسألون: متى ستخرجوننا؟ متى سنرتاح؟".
ورغم محاولاته إزالة جزء من الركام إلا أنه كان عاجز لوحده، وكل ما يمكنه فعله هو الجلوس أمام الركام، يتحدث إلى الأحجار التي كانت يومًا جدرانًا دافئة، يناجي أشلاءً عالقة تحتها، ولا أحد يسمع صوته.
يمضي الوقت وتمر الأيام ثقيلة، وكل صباح جديد يأتي ليذكّر اشتيوي بأن أسرته ما زالت هنا، تحت أنقاض منزله الذي كان يعجّ بالحياة، وبأن الاحتلال لم يكتفِ بقتلهم، بل حكم عليهم بالبقاء أسرى الموت، لا قبور تحتضنهم، ولا وداع يليق بهم.
"أريد فقط أن أدفنهم... أن أضع الورود على قبورهم بدلًا من أن أظل أحدّق في هذا الخراب"، يهمس محمد لنفسه، قبل أن يغلق عينيه للحظة، يتمنى لو أن هذا كله كان مجرد كابوس... لكنه كابوس لا ينتهي.
ورغم مرارة الفقد والدمار الذي يحيط بحياة اشتيوي بسبب الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن الحصار والجوع وطلبات الإخلاء التي لا تتوقف تثير خوفه هو وأطفاله الخمسة،" أخاف على أطفالي كثيرًا ولكن تجربتي في النزوح تجعلني أرفض تكرارها، سأبقي في الخيمة فوق بيتي المدمر فهو كل ما تبقى لدي في هذه الحياة".