مثل شخصيات نسائية عظيمة كثيرة غيرها، كثيرون منا لم يسمعوا بالأميرة الأيوبية فاطمة خاتون، الملقبة بست الشام، لم يسبغ عليها اللقب ملكٌ أو أمير أو شريف أبدًا، بل هم العامة ممن أحسنت إليهم، فأطعمتهم وداوتهم وفتحت لهم المدارس، ليلقبوها أيضًا بأم الفقراء، وراعية العلم، حاز العمل لله وفي سبيل الله اهتمامها، فاستنفد جهدها ووقتها ومالها، حتى ابنها الوحيد لم تتوانَ عن تعليمه الفقه وإعداده ليكون فارسًا عظيمًا يقود المعارك، ويفتح الأمصار، ويرافق صلاح الدين في معاركه إلى أن استشهد في معركة حطين.
خُلِّد ذكرها حتى الآن، وهي التي غادرت دنيانا منذ ما يزيد على ثمانية قرون من الزمان، لم تغادر الحياة دون أثر يحفظ سيرتها ويجعلها قدوة لكل امرأة ترنو إلى السير على درب العظماء.
فما الذي ميز ست الشام ودفعنا لنبحث عنها ونتداول سيرتها بعد مضيِّ هذا الوقت الطويل؟
فاطمة خاتون، ابنة الملك نجم الدين أيوب، والأخت الصغرى للسلطان القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي، تزوجت في بداية حياتها من عمر لاشين، أحد أمراء الجيش الزنكي، لم تمضِ معه سوى وقت قصير حين توفي عنها بعد ولادة ابنها محمد المعروف بحسام الدين، تزوجت من بعده بمحمد بن شيركوه ابن عمها، وكان صاحب مدينة حمص، ولكنه توفي أيضًا لترث منه ثروة كبيرة، لم تستغلها لإمتاع نفسها برغد العيش ومجاراة الأثرياء، بل سخَّرتها لخدمة مشاريع خيرية طالما حلمت بها.
يقول عنها الإمام الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء: "فاطمة خاتون أخت السلاطين، لها بِر وصدقات وأموال وخدم، أخت الملوك، وعمة أولادهم، ولها من الملوك المحارم خمسة وثلاثون ملكًا"، عاشت ما بين القرنين السادس والسابع الهجريين.
والخَاتون هي امرأة شريفة الأصل، عالية المقام، كان يُلقّب بذلك نساء الملوك.
سكنت فاطمة خاتون دمشق، مقابل البيمارستان النوري، المستشفى الخيري الشهير الذي شيده نور الدين زنكي، ما حفزها لإحضار الأدوية والعقاقير من مناطق بعيدة من الهند والصين لتقدمها للمرضى الذين يقصدون البيمارستان للعلاج، ثم عمدت إلى تصنيع هذه العقاقير والأدوية على أيدي أطباء مهرة وعلماء عقاقير ونباتات استقدمتهم وأغدقت عليهم.
أما بيتها فجعلت منه مقصدًا للفقراء والمحتاجين وطلبة العلم والمرضى، ليس هذا فقط، بل جعلت منه ملاذًا للجرحى من المقاتلين، ومأوى للمتضرِّرين نفسيًّا وجسديًّا من حروب الأعداء، وكأنها بذلك تؤسس لفكرة المشفى العسكري، بابتكار منها ومبادرة شخصية لم يسبقها إليها أحد، كما جعلت من بعض أقسامه ملجًا للخائفين من بطش الإفرنج رجالًا ونساء قدمت لهم الصدقات والعطايا، فكان لها دور لا يقل أهمية عن دور الجنود والقادة على جبهات القتال في محاربة الأعداء ودعم وترميم الجبهة الداخلية.
لم تكن جهودها مرتبطة بموسم معين، بحرب أو سلم مثلًا قط، بل كانت ممتدة طوال الوقت ومجانًا لكل من يحتاج لها.
قال عنها ابن كثير في تاريخه: "ست الشام واقفة المدرستين البرانية والجوانية الست الجليلة المصونة خاتون ست الشام كانت من أكثر النساء صدقة وإحسانًا إلى الفقراء والمحاويج، وتعمل في كل سنة في دارها بألوف من الذهب أشربة وأدوية وعقاقير وغير ذلك فيفرَّق على الناس".
أنشأت مدرستها الأولى، المدرسة الشامية البرانية، وسميت كذلك لوقوعها خارج أسوار دمشق، واستقدمت إليها خيرة علماء عصرها، واشترطت عليهم التفرغ التام لطلبة مدرستها، ثم أنشأت مدرستها الثانية، المدرسة الشامية الجوانية التي عرفت أيضًا بالمدرسة الحسامية، لقيام كافور الحسامي بالإشراف على بنائها، أو لدفن ولدها حسام الدين بن لاشين في التربة الملحقة بها.
قبل فتح بيت المقدس خرجت فاطمة خاتون في قافلة الحج الشامي لأداء فريضة الحج برفقة ابنها، حتى إذا وصلت القافلة إلى منطقة قريبة من الشوبك في بادية الأردن تعرضت جيوش أرناط الصليبية بحصن الكرك للقافلة، فنهبت الحجاج وقتلت بعضهم، ولما ناشده المسلمون الصلح الذي كان جاريًا وقتذاك بين المسلمين والفرنجة لم يلتفت أرناط لتوسلاتهم، بل زاد في غطرسته وشتم الرسول (صلى الله عليه وسلم). وحين بلغ ذلك صلاح الدين الأيوبي أقسم أن يقتل أرناط بيده جزاء فعلته، وقد عمد إلى فعل ذلك بعد انتصاره في معركة حطين.
توفيت ست الشام عام 616 هجرية، ودُفنت في تربة المدرسة الجوانية إلى جوار ابنها حسام الدين وأخيها صلاح الدين الأيوبي وزوجها ناصر الدين بن شيركوه، ما يزال أهل الشام يحيون ذكرها، ويستذكرون سيرتها العطرة.
رحمها الله وتقبل منها وجعل الجنة مثواها.