يعتقد بعضٌ أن السلوك التصويتي في الانتخابات القادمة سيكون انتقاميًّا، بحيث تخسر حماس في غزة، وتخسر فتح في الضفة، ويذهب آخرون إلى أن الناس في الضفة سيكونون حذرين، وسيتجنبون بكل قوة مصيرًا مشابهًا لما عاشته غزة من حصار وفقر.
من سيكسب؟ ومن سيخسر في الانتخابات القادمة؟ وما حظوظ قوائم المستقلين التي تتشكّل في مرحلة الاستعداد للانتخابات؟ كيف سيكون السلوك التصويتي في الانتخابات القادمة؟
لا بد من تأكيد أن التنبؤ بما يمكن أن يكون عليه السلوك التصويتي، في الانتخابات القادمة، هو أمر في غاية الصعوبة، ولكن توجد مؤشرات تفيد أن السلوك الجماعي الفلسطيني لم يكن انتقاميًّا ثأريًّا، ولم يكن مترددًا جبانًا كذلك، بل اتصف بشيء من الحكمة والشجاعة، وأحدث تحولات فارقة في لحظات صعبة، وكانت تلك التحولات مختلفة عن تنبؤات مدعي المعرفة والحكمة من المثقفين.
وأي قراءة موضوعية للتجارب السابقة في تقييم توجهات السلوك الجماعي للشعب الفلسطيني تجعل المرء يميل للاعتقاد بأن السلوك التصويتي في هذه الانتخابات سيكون مخالفًا لما يروّجه مدعو الحكمة من المثقفين، ومن هذه التجارب ما يلي:
أولًا: ساد اعتقاد في الثمانينيات من القرن العشرين، في أوساط منظمة التحرير، يفيد أن تزايد قوة الحركة الإسلامية في الضفة والقطاع جاء نتيجة تسهيلات قدمتها (إسرائيل) لتلك الحركات، بهدف محاربة فصائل وكوادر منظمة التحرير، وفي الوقت نفسه رأت الحركات الإسلامية أن تزايد قوتها جاء لأسباب تتعلق بقدرات كامنة لديها، إضافة إلى بداية دورة تاريخية جديدة ستتعاظم فيها قوة الإسلام والتيارات العاملة من أجله، بعد فشل كل التيارات السياسية الأخرى في الوطن العربي.
أعتقد أن الطرفين لم ينتبها إلى الظروف الموضوعية التي ساعدت على تزايد قوة التيار الإسلامي في تلك المرحلة، وهي -من وجهة نظري- تتمثل في: حاجة الأجيال الجديدة إلى هوية تحميهم من الهزات العنيفة النفسية الشديدة التي أعقبت الهزائم، وحدوث فراغ كبير نتيجة الانتقال الكبير في موقف القيادة الرسمية لمنظمة التحرير من تبني خيار المقاومة إلى اتباع نهج التسوية السياسية، وتراجع مكانة القيادة الفلسطينية المحلية داخل قطاع غزة والضفة، وحيرة الاحتلال في التعامل مع ظاهرة تزايد قوة الحركة الإسلامية اجتماعيًّا.
لقد أدت العوامل التي سبق ذكرها إلى فتح الطريق واسعًا أمام الحركة الإسلامية لكي تكبر وتنتشر، الوعي بهذه العوامل بقي منقوصًا عند الحركة ذاتها، وعند بقية التيارات والقوى السياسية التي تنافسها.
ثانيًا: لم يقتصر سوء فهم ما يجري على الحركات السياسية الفلسطينية، بل إن الاحتلال ذاته اعتقد في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي أن الطموحات الوطنية للشعب الفلسطيني قد تقزمت، وأنه لم يعُد يفكر في غير حياته اليومية.
لكن الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية فاجأ الاحتلال، وكذلك قواه وقياداته السياسية بإشعال انتفاضة شعبية واسعة وعارمة ومتواصلة، يمكن القول إن المقاربة التي تبناها الاحتلال لترويض الشعب الفلسطيني (أسرلة سلوك ومفاهيم الأجيال الجديدة تحت شعار التعايش، وإثراء الأفراد بالعمل في مرافق الاقتصاد الإسرائيلي، وإفقار الوطن بالسيطرة على الأراضي للاستيطان، وتجفيف البيارات والمزارع)؛ هذه المقاربة أدت إلى نتيجة عكسية تمامًا إذ أدت هذه السياسات إلى جعل الأجيال الجديدة تكتشف مواطن ضعف هذا الاحتلال، إضافة إلى معرفتها عنصريته وعدوانيته، وبناءً عليه قررت تلك الأجيال الثورة على الاحتلال، لا الرضوخ له، أو التعايش معه.
ثالثًا: اعتقد كثيرون، من المثقفين ومنظري الفصائل، عشية الانتخابات البلدية عام 2005، والانتخابات التشريعية عام 2006؛ أن الشعب الفلسطيني سيمنح الحركة الإسلامية الأصوات على المستوى المحلي، لكنه سيمنح حركة فتح الأصوات على المستوى التشريعي، ولهذا أوقف السيد محمود عباس الانتخابات البلدية قبل أن تكتمل مرحلتها الأخيرة، لعله يستطيع بعد فوز حركته في الانتخابات التشريعية، كما اعتقد هو وغيره، أن يمنح حركته موقعًا أفضل في التنافس على ما تبقى من بلديات، لكن جاءت النتيجة مفاجئة، وفازت الحركة الإسلامية في الانتخابات البرلمانية.
انتقل أولئك المثقفون ومنظرو الفصائل إلى تقديم تفسيرات لذلك الفوز، ورأوا أنه احتجاجي على فتح، وانتقامي بسبب ما ظهر من فساد في سلوك السلطة، ولم يقفوا مع أنفسهم لعلهم يُبصرون اتجاه حركة التاريخ الفلسطيني التي كانت تتجه بقوة وانتظام نحو إدراك شعبي واسع لمسألتين مهمتين، وهما: ليس بإمكان فصيل واحد إدارة الشأن الفلسطيني، كما أنه ليس بإمكان وسيلة واحدة دحر الاحتلال، بالفعل لقد عكست نتائج الانتخابات رغبة شعبية في إنهاء التفرد بالقيادة، وتفعيل مختلف الوسائل في مقارعة الاحتلال، لأهمية وضرورة الوحدة الوطنية على برنامج يجمع بين إدارة الحياة وفي الوقت نفسه مقارعة الاحتلال.
وبدلًا من الانسجام مع حركة التاريخ، والتعاطي بإيجابية مع التوجهات الشعبية، جرى العمل عكس ذلك تمامًا، وانتقلنا من تفرد فصيل بالشأن الفلسطيني إلى تفرد شخص واحد يُحيط به فريق صغير.
ويجري الآن تكرار الادعاء بمعرفة توجهات الناس، وأن الناس ستنتقم من الجهة الفلانية، وستُعاقب العلّانية، وربما يتوقع بعضٌ أن يُنتخب لأنه وقف متفرجًا طيلة السنوات الماضية.
أعتقد أنه بعد العرض السابق يمكن القول إن الناخب الفلسطيني سيكون أكثر عقلانية من مُدّعي المعرفة، وقبل الذهاب إلى الصندوق سيفكر الناخب في الأسئلة التالية: من الجهة التي تستطيع حماية الأمن والاستقرار، التي هي وظيفة أساسية من وظائف أي سلطة في العالم؟ ومن الذي يمتلك قدرًا من الوحدة والتماسك الداخليين بشكل يمكنه من توحيد أكبر شرائح الوطن حوله؟ ومن الذي ترتبط مصالحي به ويستطيع أن يُلبيها؟ ومن الجهة التي يمكن أن تتفوق على غيرها في إيجاد حد معقول من الربط بين الوطني والحياتي؟