برز في الإعلام التركي في الآونة الأخيرة تراشق عبر منابر القاعات الخاصة بالأحزاب السياسية التركية في البرلمان والتي تعقد لقاءاتها الحزبية كل يوم ثلاثاء حيث طالب رئيس أكبر حزب معارضة – حزب الشعب الجمهوري – كمال كلتشدار أوغلو حزب الحركة القومية المؤيد للحكومة وحليفها في تحالف الجمهور بالضغط على حليفه – يقصد العدالة والتنمية – بأن يعقد انتخابات مبكرة إن كان لديه حرص على مصلحة الوطن والمواطن فكان الرد المتوقع من دولت باهتشالي رئيس الحزب ومن بعده المتحدث باسم الحكومة رفضاً للطلب, مصرين على أن البلاد لا تحتاج لذلك وأن الانتخابات القادمة ستكون في موعدها المعتمد في حزيران من العام 2023 وأغلق النقاش ولم يطل.
فهل فعلا البلاد بحاجة لانتخابات مبكرة وهل فعلا يريد تحالف المعارضة انتخابات؟ وهل يمكن أن يدعو التحالف الحاكم لانتخابات مبكرة؟
للوصول لحالة الانتخابات المبكرة فإن الدول الديمقراطية تحتاج أن تقع ضمن إحدى هذه الحالات الثلاث:
الأولى: ضغوط سياسية داخلية أو خارجية توصل البلاد لانسداد أفق يدفعها مكرهة نحو الانتخابات لتجديد الشرعيات أو تغيير الأحزاب الحاكمة.
الثانية: أن تصل المعارضة لغلبة في البرلمان نتيجة استقالة أعضاء من المؤيدين للحكومة أو انتقالهم لصف المعارضة تسهل عليها إسقاط الحكومة في نفس الوقت تشعر بالثقة أنها لو أعيدت الانتخابات ستفوز فيها.
الثالثة: وهي الأكثر تفصيلاً وتعقيداً وهي أن يحدث تغير في المزاج الشعبي وشعور الحكومة بنوع من الضعف على صعيد الشرعية نتيجة ضغط المعارضة أو أحداث طارئة أو أزمات، لكنها في نفس الوقت تؤمن أن الظروف السياسية والاقتصادية مواتية لها لتعلن عن انتخابات مبكرة تضمن فيها الفوز إما لإنجازات مهمة قامت بها ويشعر بها المواطن أو لحالة تفكك تعيشها المعارضة. وعلى الطرف الآخر شعور المعارضة بضعف في التأييد الشعبي للحكومة وصعود في التأييد لها وقناعتها القوية أن الواقع الشعبي تغير لصالحها.
وبالنظر لتركيا من منظور الحالات الثلاث المذكورة نجد التالي :
أولاً: الحالة السياسية والاقتصادية التركية.
الحالة التركية اليوم ليس فيها أي نوع من الاضطراب الذي يصل إلى الحاجة لتجديد الشرعيات فلا الواقع السياسي فيه ذلك الاضطراب -بل على العكس فيه استقرار واضح يعطي الأريحية لرئيس البلاد لاتخاذ قرارات جريئة مثل فتح عدة معارك وإرسال قوات خارج الحدود في الوقت نفسه الدخول في مواجهة مع اليونان وفرنسا في البحر المتوسط تصل إلى حد الاحتكاك العسكري وغير ذلك من التحركات التركية التي تدلل على أن الوضع السياسي داخليا مستقر جدا.
وعلى صعيد الاقتصاد فرغم التغيرات السلبية في أسعار العملات مقابل الليرة التركية وغيرها من المظاهر الاقتصادية إلا أنها لم تصل لحالة الانهيار أو الضعف الشديد ورغم كل الملفات الساخنة التي دخلتها تركيا وأزمة كورونا معها فإنها تملك برنامجا اقتصاديا واضحاً تسعى لتحقيقه وأرقام الدولة وحتى تقارير مؤسسات الائتمان المالي -ورغم سلبية بعضها- إلا أنها لا تشير لحالة من الانهيار أو التدهور السريع.
كما ان المواطن التركي رغم الضغط الاقتصادي الذي يعيشه والذي كان لكورونا أثر سلبي عليه إلا أنه ما زال قادرا على إدارة شؤونه خاصة مع وجود برامج الدعم الاقتصادي المتعددة التي قدمتها الدولة للشركات الصغيرة والمتوسطة في ظل الأزمة ومنع تسريح العمال طوال الأزمة.
كل هذه القضايا تشير إلى أن الحزب الحاكم لا يشعر بأن هناك حاجة لتجديد الشرعيات خاصة وأن نتائج كل استطلاعات الرأي الرزينة ما زالت تعطي الحزب الحاكم وحليفه تفوقا ولو ضئيلا على منافسيهم .
ثانياً: الحسبة الرياضية في البرلمان.
عدد أعضاء البرلمان التركي 600 ولكن بعد استقالة 9 أعضاء ليقوموا بمهام تنفيذية ( وزير أو رئيس بلدية) وإسقاط عضوية 3 ووفاة 3 بقي في البرلمان 585 مقعد فقط.
والتوزيعة في البرلمان كالتالي: العدالة والتنمية الحاكم له 290 عضوا وحليفه في الائتلاف حزب الحركة القومية له 48 عضوا وبهذا يشكل الحلف الحاكم حوالي 58% من مقاعد البرلمان الفاعلة بينما تشكل كل أحزاب المعارضة مع المحسوبين عليها من المستقلين تقريبا 41.5% مما يعني أن حالة الدعوة لانتخابات مبكرة عبر إسقاط الحكومة من خلال البرلمان غير واردة خاصة إذا علم أن البرلمان لا يستطيع الدعوة للانتخابات إلا ب 360 صوتا وليس النصف +1 .
ثالثا: التغير في الخارطة السياسية الشعبية .
أما هذه والتي يحكمها المزاج العام فيمكن التأكد منها من خلال الاستطلاعات المحترفة والمعمقة في الشارع التركي والمعلومات التي تأتي من الأحزاب والمؤشرات المقروءة في الخارطة السياسية التركية تنفي حدوث أي تآكل في شرعية الحكومة بسبب الضغوط وفي نفس الوقت توجد قناعة قوية لدى الحزب الحاكم أنه قادر على قلب الطاولة ورفع نسبة تأييده بسهولة ، كما أن المعارضة مقتنعة أن وضعها الشعبي وواقعها السياسي لا يتيحان لها فرصة فوز ولو شبه مضمونة.
فعلى صعيد الحكومة ونتيجة الهزة التي عاشها الحزب بخسارته عددا من البلديات الكبرى وعلى رأسها بلديتي إسطنبول وأنقرة وكذلك نتيجة إعلان قيادات سابقة فيه عن تشكيل أحزاب معارضة حتى ولو أنها مازالت ضعيفة التأثير كونها في طور التشكيل، وأخيرا نتيجة للضغوط الاقتصادية والسياسية التي تعيشها تركيا يشعر حزب العدالة والتنمية والائتلاف المؤيد له أن الظروف غير مواتية وأن التأييد الشعبي يحتاج لإعادة ترميم عبر عدد من الإنجازات والنجاحات وتصحيح في الخطاب خاصة الموجه للكتل الشابة والناخب المتردد في توجهاته السياسية ومع هذه وتلك يحتاج الحزب لإنجاز عدد من الملفات على صعيد الاقتصاد مثل اطلاق السيارة التركية والبدء في ضخ الغاز التركي إلى الأنابيب التركية، وعلى صعيد العلاقات انجاز بعض التفوق السياسي الإقليمي في كل الملفات العالقة أو بعضها وأخيراً إشعار المواطن ببعض التحسن الاقتصادي لإعطائه الأمل في أن القادم في ظل نفس الكتلة الحاكمة أكثر أمانا واستقراراً من الدخول في مغامرة بمحاولة اسقاط الائتلاف الحاكم.
وعلى صعيد المعارضة فالواقع ليس ورديا بل ليس مستقرا فكل العوامل تدفع باتجاه التريث في الدعوة للانتخابات المبكرة، فهناك خلل في الترابط الداخلي على صعيد العلاقات البينية بين الأحزاب المشكلة لتحالف المعارضة، وهناك تجاذبات حادة نتيجة وجود الشريك غير المرغوب فيه وهو حزب الشعوب الديمقراطي الذي لا يمكن الاستغناء عنه في نفس الوقت بالنسبة لتحالف المعارضة فهو بيضة القبان في تقريب وزن كتلة المعارضة من كتلة التحالف الحاكم.
وهناك خلل أيضا على صعيد العلاقات الداخلية في داخل كل حزب من الأحزاب المعارضة، فكل الكتل الحزبية الرئيسية في هذا التحالف تشهد صراعات على القيادة أو على السياسة العامة والتوجهات الفكرية لهذه الأحزاب كما في حزب الشعب الجمهوري الذي من المتوقع أن ينشق عنه حزب صغير أو أكثر نتيجة الخلافات الفكرية الحادة فيه وموقفها من بعضها البعض خاصة موقف الحزب الجيد القومي التركي العلماني من حزب الشعوب الديمقراطي ذو التوجه اليساري الكردي.
فكل هذه المؤشرات لا تشجع المعارضة على التحرك والضغط باتجاه المطالبة بانتخابات مبكرة.
وفي الواقع فإن أحد أهم شركات استطلاع الرأي التركية نشرت آخر استطلاعاتها الذي أنجزته خلال شهر سبتمبر/ أيلول الماضي أشار لحقيقة قد تكون مرعبة لكل الأطراف فكل الأحزاب باستثناء حزب الشعوب الديمقراطي عاشت تراجعا في كتلة المؤيدين المطلقين لها في الشارع وأن نسبة المترددين وصلت لمستوى عال جداً بتجاوز ال 22% من أصوات المستطلعة آراؤهم. وبناء على نتائج الاستطلاع فلا تحالف الجمهور بقيادة حزب العدالة والتنمية يمكنه أن يشكل أغلبية مريحة تضمن له الفوز حيث يحصل بعد توزيع المترددين على الأحزاب على 50.8% فقط بينما يحصل تحالف المعارضة بالإضافة للأحزاب التي لم تنضم له رسمياً مثل حزب دواء الذي أسسه باباجان وحزب المستقبل الذي أسسه أحمد داوود أوغلو سوى على 49.2% وهي نسبة حتى لو اجتمعت كل المعارضة لا تعطيها فرصة الفوز برئاسة الجمهورية الأمر الذي بدونه لا معنى لأي إعادة للانتخابات. مع العلم أن الأحزاب الجديدة لم تحسم أمرها بعد من المشاركة في ائتلاف المعارضة من عدمه ولم يحسب في الاستفتاء وزن شخص أردوغان في التأثير على الناخب الذي عادة ما يفوق التأييد لمجموع الأحزاب الداعمة له.
وبناء عليه فإن دعوة المعارضة للانتخابات ما هي إلا مناكفة سياسية وتحريك لمياه راكدة فلا المعارضة جاهزة لانتخابات مبكرة ولا تظن أنها تفوز بها والحكومة والحزب الحاكم في الطرف المقابل غير معنيين بانتخابات مبكرة ويسعون لتنفيذها في موعدها ليتيح لهم الوقت فرصة لترميم التآكل الحاصل في التأييد الشعبي وزيادة الكتلة المؤيدة للاستقرار السياسي والاقتصادي في ظل نفس الكتلة الحاكمة عبر انجازات سياسية واقتصادية لافتة ومؤثرة.