بعد مخاض طويل داخل الاتحاد الأوروبي نفسه وفي الكواليس بين الدبلوماسيين الأتراك والأوروبيين مجتمعين وممثلي كل دولة على حدة، صدر يوم 13 ديسمبر الجاري قرار الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات شكلية على تركيا والتهديد بعقوبات أكثر شدة على تركيا إن لم تحل مشكلة التنقيب عن الغاز شرق المتوسط والتي تضعها في مواجهة مباشرة مع دولتين عضوين في الاتحاد وهما اليونان وربيبتها (جمهورية) القسم اليوناني في جزيرة قبرص ولكن هذا القرار ومحتواه يحمل العديد من المؤشرات على طبيعته وعلى طبيعة العلاقات التركية الأوروبية ومستقبلها الأمور التي تختلف عليها دول الاتحاد بشكل واضح من حيث رؤيتها للمشكلة والحل وكذلك موقفها أصلًا من تركيا.
فرغم تداول القرار لعدة أشهر والتهديد به عدة مرات فإنه صدر باهتًا غير مؤثر ومتقبلًا من تركيا من ناحية ومخيبًا للآمال لليونان وقبرص اليونانية من ناحية أخرى، وفرنسا التي كانت تقود تيار أعداء تركيا يبدو أنها لانت في اللحظة الأخيرة وأعادت حساباتها مرة أخرى فخففت من حدة موقفها المعلن لصالح القرار المخفف.
الاختلاف الأوروبي
بداية يجب أن يكون واضحًا أن الاتحاد الأوروبي لم يكن يومًا على قلب رجل واحد لا في ملف العلاقات التركية الأوروبية عامة ولا حتى في ملف غاز المتوسط خاصة، وهذا الأمر معروف لدى كل المتابعين والمختصين، فألمانيا مثلًا -التي تشكل حجر الزاوية في بنية الاتحاد خاصة بعد انسحاب بريطانيا- حاولت جاهدة أن تنأى بنفسها عن الاصطفاف في ملف الغاز وعملت وسيطًا، إلا أن وحدة الموقف في الاتحاد الأوروبي دفعتها للتعامل على خلاف قناعتها في الملف لا سيما أن اليونان هي من رفضت العروض الألمانية في الجلوس للطاولة لحل الأمر سياسيًّا ودبلوماسيًّا عدة مرات.
ففي المجال الاقتصادي تركيا هي خامس أكبر شريك اقتصادي للاتحاد الأوروبي مجتمعًا، ووصلت ديون تركيا طويلة المدى للاتحاد الأوروبي عبر بنوكه ومؤسساته الاقتصادية إلى حوالي (110) مليارات يورو، وهي تشكل حوالي نصف الدين التركي الخارجي طويل المدى حسب إحصائيات 2019، وهي كذلك أحد أهم شركاء الدين الخارجي قصير المدى في تركيا وتخشى من انعكاس سلبي لأي أزمة اقتصادية في تركيا نتيجة العقوبات على اقتصاداتها، وقد عاشت هذه البنوك تجربة مصغرة لها في نهاية عام 2018 حين عاشت الليرة التركية أزمة خفضت قيمتها بحوالي 15% فتراجعت أسواق الأوراق النقدية الأوروبية (البورصة) تراجعًا لافتًا في اليوم نفسه، وتراجع اليورو متأثرًا أمام الدولار.
المصالح الاستراتيجية للاتحاد
إضافة للاقتصاد فإن المصالح الأوروبية العليا كان لها أثر مهم في القرار، فعلى الرغم من أن اليونان وبوضوح نجحت في تحويل أزمتها مع تركيا إلى أزمة بين تركيا والاتحاد الأوروبي كما صرح الرئيس اليوناني في حينه، فإن العديد من الدول الأوروبية وعلى رأسها ألمانيا تميل للحفاظ على علاقات جيدة مع تركيا خاصة بعد التطور الكبير الذي تعيشه تركيا على الصعيد السياسي والدبلوماسي والعسكري في التأثير في المنطقة، وأصبح واضحًا أن الاتحاد الأوروبي بحاجة ماسة لتركيا ليكون له دور أكثر فاعلية وتأثيرًا في قضايا الشرق الأوسط ووسط آسيا خاصة في ظل قدرة تركيا على التأثير في مجريات الأمور في الكثير من الملفات الساخنة في المنطقة كليبيا وسوريا وأوكرانيا وآخرها كان ملف تحرير إقليم كاراباخ الأذربيجاني.
حقوق تركيا ولعبة المحاور
إضافة لهذه الدوافع فإن عددًا من دول الاتحاد أيضًا لا تحمل نفس قناعات اليونان وفرنسا في موضوع توزيع الغاز وتحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة لأطراف النزاع وتعطي تركيا جزءًا من الحق في هذا الخلاف، لذلك ترى أن هذا النوع من العقوبات يجب ألا يعتمد فقط على علاقة الأطراف بتركيا ولا أن تنجر أوروبا للعبة المحاور التي تجرها إليها فرنسا لأسباب بعيدة عن مصالح الاتحاد وتدعمها اليونان لمصالحها الآنية والتي قد تنعكس سلبًا على الاتحاد ودوله في المستقبل، بل يجب أن يكون الاتحاد الأوروبي قوة وسيطة مؤثرة في فض هذا النزاع بما يخدم مصالحه ويعزز قدرته على التأثير في تركيا.
أزمة اللاجئين غير الشرعيين
على الرغم من استخدامها في الخطاب السياسي التركي عدة مرات كورقة تهديد فإن قدرة تركيا على السيطرة على ملايين اللاجئين من السوريين أولًا والأفغان والباكستانيين ثانيًا على أراضيها ومنع تدفقهم بمئات الآلاف إلى أوروبا، رفع عن كاهل الاتحاد الأوروبي عبئًا كبيرًا جدًّا سياسيًّا واقتصاديًّا أوشك أن يتسبب بنزاع حقيقي داخل الاتحاد، وهددت بعض الدول قبل ضبط تركيا لحدودها بأنها لن تقبل أن تبقى في الاتحاد إن تم تحميلها تبعات الملف منفردة كاليونان والمجر، لذلك فإن أي ضغط كبير على تركيا لن يمنعها من تسهيل مرور هؤلاء اللاجئين بل ومساعدتهم وهي قادرة على ذلك وتشكيل ضغط كبير جدًّا على الاتحاد عمومًا وعلى اليونان خصوصًا، وتبقى ألمانيا هي الأكثر تفهمًا للدور التركي لا سيما أنها كانت الطرف الأهم في الاتفاقيات المتعلقة باللاجئين مع تركيا، على الرغم من أن دول الاتحاد لم تفِ بوعودها بدعم تركيا في تحمل تبعات هذا الملف اقتصاديًّا على الأقل.
دبلوماسية المساعدات
بجانب هذه القضايا المهمة يبدو أيضًا أن دبلوماسية المساعدات الطبية التي استخدمتها تركيا مع هذه البلاد صنعت أثرًا في البلدين الأكثر تضررًا في الاتحاد الأوروبي إسبانيا وإيطاليا والأكثر استفادة من المساعدات التركية في تلك الفترة، لعبت دورًا إيجابيًّا على صعيد العلاقات البينية مع تركيا، إذ اتهمت الدولتان الاتحاد الأوروبي وبعض الدول الأعضاء فيه بعدم الوقوف بجدية بجانب الدولتين في هذه الأزمة، بل اتهمتا فرنسا بسرقة المواد الطبية الخاصة بهذه الدول في أثناء أزمة كورونا في حين كانت تركيا ترسل المساعدات الطبية لها بالمجان.
إلى أين تتجه العلاقات بين تركيا والاتحاد؟
بالنظر إلى كل الدوافع التي خففت القرار والتي ذكرت سابقًا في المقال، يبدو أن الاتحاد الأوروبي لن يغير موقفه كثيرًا من تركيا رغم التهديد الذي حمله القرار بتوسعة العقوبات في شهر مارس المقبل لا سيما أن الظروف السياسية والأمنية في المنطقة لن تتغير في المستقبل القريب، ولكن من التاريخ المذكور يبدو أن الاتحاد الأوروبي أجل البت في الأمر لسببين رئيسين وهما:
إعطاء فرصة أكبر للحل السياسي والدبلوماسي لأزمة الغاز، وهذا يفسر عدم تلبية الاتحاد لمطالب اليونان كاملة حتى لا يشجعها على التعنت في مواقفها، ولكن في الوقت نفسه أعطى لتركيا إنذارًا واضحًا من الاستمرار في سياسة الأمر الواقع التي تمارسها في ساحات التنقيب.
ويبدو أن الاتحاد وعلى رأسه ألمانيا يحاول أن يعطي تركيا الأمل بإمكانية التقارب وحتى التوصل لحل لعقدة العضوية التركية فيه بالتفاهم على حل المشكلات العالقة، ومن بوادر هذا التوجه هو الاتصال المرئي (فيديو كونفرانس) بين ميركل وأردوغان بعد أيام قليلة من القرار الأوروبي الذي أعرب فيه الطرفان عن رغبتهما بتطوير العلاقة مع الاتحاد والعمل على حل المشكلات العالقة بالطرق الدبلوماسية، وإن كان أردوغان قد ركز على أن تركيا كانت دائمًا هي من تقدم حسن النوايا تجاه المبادرات الألمانية وليس من باب الصدفة ترافق هذا اللقاء مع منشور مطول لجوزيب بوريل، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، أفاد فيه بأنه لا يمكن إنكار نجاح تركيا الواضح بالتحول لقوة إقليمية مؤثرة على الرغم من الاختلاف في المصالح والأساليب في بعض القضايا عن الاتحاد الأوروبي وإعلانه فشل أسلوب الاتحاد المتبع منذ عام 2016 والقائم على الضغط والردع في الوصول لحلول مستقرة للمشكلات، وقال: "إننا بحاجة لحديث معمق ومطول مع تركيا لإنجاز تقدم ملحوظ في موضوع العضوية كما أن على تركيا الإجابة عن كل تساؤلات وتخوفات الاتحاد".
كل هذا يشير إلى أن الاتحاد ليس معنيًّا بالعداء الدائم مع تركيا ولا من مصلحة الدخول معها في مواجهة، ما سيدفعها بعكس الاتجاه الذي يرغب فيه المحول الغربي عمومًا وهو روسيا والشرق.
انتظار الموقف الأمريكي من تركيا، فبتأجيل الحديث عن عقوبات مؤثرة لما بعد شهر مارس/ آذار القادم تكون قد أحالت الأمر لما بعد جلوس بايدن على سدة الحكم في أمريكا والبدء في تنفيذ سياساته المرتقبة تجاه تركيا، وبهذا يكون الاتحاد لم يقع في خطأ -إن رغب في فرض عقوبات- أن يكون منفردًا في عدائه لتركيا، ما سيجعل هذه العقوبات قليلة الأثر في تركيا من ناحية وتحرك تركيا بحدة أكثر ضد مصالح أوروبا، ما قد يهدد مصالح الاتحاد الاستراتيجية ويضعف تأثيره أكثر في المنطقة والإقليم.
ومن هذا كله يمكن أن نعد أنه العلاقات التركية الأوروبية انتقلت في عهد العدالة والتنمية من علاقة دولة تتسول العلاقة على أبواب الاتحاد إلى دولة تملك أوراق قوة مؤثرة على طاولة العلاقة، جعلت الاتحاد الأوروبي يفكر ولمدة طويلة في فرض العقوبات على تركيا وحتى السعي لإغراء تركيا بتطوير العلاقة مقابل التوافق على حل دبلوماسي للأزمة بينها وبين الدول الأعضاء في الاتحاد.