فلسطين أون لاين

تمام والمعلمة نهاية.. هل نحاسب الأطفال على بشاعتهم؟!

لا أستطيع أن أنسى المعلمة نهاية مهما حييت، كنت في الصف الثاني عندما انتقلت إلى تلك المدرسة بعد أن غيَّرنا مكان سكننا، فأصبح من اللازم الانتقال لمدرسة قريبة من البيت. ولكون والداي معروفين -والوضع المادي لعائلتي مريح أتاح لي الكثير من الامتيازات- استُقبلت في المدرسة بالترحاب، والتقَبُّل، وسرعان ما اندمجت في صفي وداخل مجموعات الطالبات، وأصبحت معروفة بين الجميع، طالبات ومعلمات، وأُتيحت لي فرص سخيَّة للمشاركة في النشاطات الطلابية التي كنت أحبها، وخاصة الإذاعة المدرسية التي رحَّبت بي المعلمة المسؤولة عنها، ومنحتني دورًا رياديًّا فيها في مناسبات مختلفة.

خلاصة الموضوع أنني شعرت في تلك المدرسة وكأنني في بيتي الثاني بسبب التقبّل الإيجابي الداعم الذي لقيته طوال الوقت، ولكن، في قلب هذا الخضمّ، تلوح في ذاكرتي بقع داكنة، شديدة القتامة: صورة طفلة قصيرة سمينة، بملابس غير مرتبة، وشعر أشعث أغبر معظم الوقت، وبشرة سمراء تكثر فيها النُّدب والخدوش، وفم كبير وأسنان صفراء غير منتظمة، وحقيبة رمادية كالحة لا تواكب أشكال وألوان الموضة الدَّارجة، ويبدو واضحًا أنها ورثتها من أحد إخوتها الكبار أو أحد المحسنين الذين لم يعد لديه طلاب في المدارس منذ زمن.

حتى دفاترها لم تكن ذات ألوان زاهية وجميلة كما معظم الطالبات، أما مطرة المياه فلم يكن لديها واحدة ذات مرة، بل تراها تضطر دومًا إلى الاستئذان للخروج للشرب (هذا في حال وافقت المعلمة التي يغلب على طبعها الحاد الرفض)، أو تسوُّل شربة الماء من الطالبات اللاتي كُنَّ يرفض ذلك بعنف في الغالب، فضلًا عن عبارات التقزز التي يذيِّلن بها رفضهن.

كنت أشاهد ما يجري وأرقبه بمشاعر طفل مرهف شديد الحساسية، يؤلم قلبه الظلم الاجتماعي، ومحاسبة الأطفال على أخطاء ارتكبها غيرهم.

كنت أسأل نفسي كثيرًا: لماذا تمام تحديدًا؟! لماذا أجدها تختلف بشكل سلبي عن بقية الطالبات إلى درجة أنني صرت أتخيَّلها بطة سوداء بين سرب من البجع؟! لماذا لا تشتري حقيبة وأدوات أجمل من التي تمتلكها؟! لماذا لا تغسل شعرها وتمشطه وتضع عليه ربطات بيضاء مرتبة وجميلة مثلنا بعد أن تتعطر وتتزين؟! ما الذي يدفعها إلى القدوم للمدرسة بهذا المظهر، الذي يجلب لها الاحتقار وينفِّر منها الطالبات، فضلًا عن المعلمات اللاتي في الغالب لها معهن حكاية ضاربة في السوء؟! لماذا لا تأتي أمها وتسأل عنها وتزورها في الصف كما تفعل كل الأمهات؟!

الست نهاية، معلمة العلوم، كانت ألد أعداء تمام، وأكثر مبغضيها، وعادة ما تأتي الصف تحمل عصا خشبية بين دفاترها، ما إن تلج باب الصف وتسمع جلبة الطالبات، حتى تُخرج العصا، وتشق الصفوف معاجلة إلى المسكينة تمام التي تنكمش في مرقدها مثل قطة داهمتها العاصفة الهوجاء، وترفع العصا إلى أقصى ما تصل ذراعها، ثم تهوي بها بلا تمييز بين أعضائها بقسوة بالغة، كان الصف يسكن فجأة، وتقف الطالبات متفرجات على عقاب تمام التي لم تكن وحدها السبب في استحقاقه، ولكن في كل مرة لا بد من كبش فداء، ولم يكن هناك أفضل من تمام لأداء هذا الدور.

في كثير من المرات لم تتوقف الست نهاية عن الضرب إلا بعد أن تُكسر العصا، أما تمام فتتسمر أمامها مثل تمثال من البرونز، تكتفي بإخفاء وجهها بين يديها والنشيج بصمت، ثم الانسحاب بعيدًا عن المحيط، والتأتأة والتلجج كلما أرادت أن تنطق بكلمة.

مشاعر كثيرة تتضارب داخلي كلما تذكرت تلك الأيام: حقد على المعلمة، وشفقة على تمام، وغضب من زميلاتي لتسببهن بالأذى لتلك المسكينة، واحتقار للذات لكوني كنت أكتفي بالتَّفرج دون أن أقف للتصدي والدفاع عنها، وقول كلمة الحق أمام المعلمة الجائرة.

حتى إن تمام تتراءى في مخيلتي أحيانًا كثيرة وأتمنى لو ألتقيها، أتمنى لو أعرف أين جرت بها سيول الدنيا الظالمة.

بعد الصف الثالث تركتْ المدرسة ولم أعد أسمع عنها شيئًا، مع أني لم أستطع نسيان وجهها المرتجف رعبًا، ودموع الذل المنفطرة من عيونها البريئة.