بعد أشهر عدة من اتخاذ الوزارات الحكومية بغزة تدابير احترازية لمنع تفشي فيروس كورونا (كوفيد 19) داخل المجتمع الفلسطيني في غزة وإنشاء مراكز حجر صحي لحجر كل عائد إلى غزة من الخارج، استطاع الفيروس النفاذ إلى القطاع مؤخرًا من مصدر غير معروف للجهات الحكومية بعد ودخل للمجتمع بمعدل 146 حالة نشطة (109 من المجتمع و37 من العائدين) حتى اللحظة، ومعه فرضت الوزارات إجراءات مشددة لمحاصرة الفيروس، وسط بعض المطالبات من هنا وهناك بتخفيف القيود، منهم من "نادى بالتعايش مع الفيروس"، فهل هذا الأسلوب يصلح مع غزة، أم أن تشديد الإجراءات هو الأفضل؟
بالتأكيد هناك إجابة عن السؤالين السابقين تستند إلى معطيات.
باستعراض بعض التجارب العالمية في مواجهة الفيروس، فإن التجربة الصينية اعتمدت على "الإغلاق الكامل" فبمجرد انتشار الفيروس بمدينة "ووهان" الصينية التي يبلغ تعداد سكانها نحو 11 مليون نسمة، لم تكتفي الحكومة الصينية بإغلاق مقاطعة "كوبي" بل أغلقت كل المدن وقيدت حركة أكثر من 760 مليون شخص، وأنشأت الصين 14 مستشفى وعزلت الحالات المصابة والمشتبه بها، وأغلقت المصانع، ورغم الخسائر الهائلة التي تعرضت لها، فإن هذه الإجراءات ساهمت في انحسار الوباء وخروج الصين من التصنيف الأول للدول الموبوءة واستمرت الإجراءات المشددة نحو شهرين.
في إبريل/ نيسان الماضي وصل معدل الإصابات بالفيروس بالصين 83 ألف إصابة ووصلت معدلات الوفيات إلى (3335) حالة، وفي إحصائية رسمية نشرتها الحكومة الصينية خلال الأسبوع المنصرم فقد وصل المعدل الإجمالي للحالات التي أصابها الفيروس 84 ألفا و967 حالة (شفي معظمها) في حين استقر عدد الوفيات عند حاجز 4634 حالة وفاة.
كما أن الإصابات التي تحدث بالصين هي لمسافرين قدموا من الخارج، بالتالي تعتبر التجربة الصينية ناجحة في محاربة الفيروس، وقد اعتمدتها عدة دول واثبتت نجاعتها.
بالمرور على التجربة الأمريكية، التي قدمت الاقتصاد على الإجراءات المشددة، وسمحت للمصانع والشركات باستمرار العمل، وتأخر الولايات المتحدة في إجراءات محاربة الفيروس رغم انتشاره البطيء على أراضيها في البداية، ما كبد الولايات المتحدة خسائر فاقت أضعاف خسائر الصين، سواء بالاقتصاد الذي قدمته على الإجراءات المشددة، وبأرقام حالات الإصابة.
حسب المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها، فإن عدد حالات الوفاة ارتفع مؤخرا إلى 176 ألفا و617 حالة، في حين وصلت حالات الإصابات إلى 5 ملايين و715 ألفا و567 حالة، بعدما سجلت 33 ألفا و76 حالة إصابة جديدة الثلاثاء الماضي فقط، وشهدت الأيام الأخيرة وفاة 394 شخصًا.
وهذا يعني أن الولايات المتحدة أوقعت نفسها في وحل لم تستطع الخروج منه، فهي لا تستطيع معالجة الخسائر بشكل يرضي الأمريكيين، وفي نفس الوقت لا تستطيع حصر الفيروس أو وقف انتشاره حتى اللحظة، فاضطرت الولايات لتقديم مساعدات اقتصادية للقطاعات المتضررة بقيمة 2.2 تريليون دولار.
هناك تجربة ناجحة ظهرت في هذا العالم، ربما لم يتطرق إليها الكثيرون، إلا أنها اعتمدت على التكنولوجيا ووعي المواطنين في نفس الوقت، وهي تجربة كوريا الجنوبية، وهذه التجربة تعتمد على استمرار "الانفتاح الكامل" وعدم شل الحركة، لكنها استخدمت تطبيقات للهواتف الذكية تعتمد التتبع المركزي للمصابين ونشر حالات الإصابات، فيشعر المواطنون بوجود حالات إصابة قريبة منهم على بعد 100 متر، مع إجراء مئات الآلاف من الفحوصات ومعالجة المصابين أولا بأول، واتاحة ومشاركة المعلومات مع الناس.
ورغم أن كوريا الجنوبية كانت بؤرة تفشي الفيروس بعد الصين؛ لكنها وبفضل سياسة الحكومة وصل عدد الإصابات في أحدث الإحصائيات الرسمية التي نشرت مؤخرا إلى 17 ألفا و945 إصابة، أما الوفيات فبلغت 310 إصابة.
حديثًا أمرت كوريا الجنوبية معظم المدارس في العاصمة "سول" والمنطق المحيطة بإغلاق الفصول والعودة للدراسة عبر الانترنت لتجنب حدوث طفرة في حالات الإصابة، حتى 11 سبتمبر/ أيلول القادم، وهذا يعني أن الحكومة هناك تقيم الموقف وتتخذ الإجراءات المناسبة في تقييد الحركة ببعض المناطق بناء على فحوصات كبيرة تجريها أولا بأول لمصابين أو عينات عشوائية.
إيطاليا اعتمدت على الاستهتار مع بدء تفشي الفيروس فيها والذي انتقل إليها عبر سياح صينيين، ثم مباراة كرة القدم التي جمعت فريق أتلانتا الإيطالي وفريق فالنسيا الإسباني في دوري أبطال أوروبا، التي حضرها 40 ألف متفرج في مدرجات الملعب، وأبقت المتنزهات والمقاهي مفتوحة، فوصلت الإصابات إلى 265 ألفا (شفي منها 207 آلاف شخص) ووصلت حالات الوفاة إلى 35 ألفا و472 حالة، ومنذ مايو الماضي تشهد إيطاليا معدل يومي 200 حالة، وما زالت إيطاليا تتخوف من احتمالية تفشيه مرة أخرى، فقد سجلت في يوم واحد مؤخرا 550 حالة إصابة.
على مستوى العالم بلغ إجمالي الإصابة بالفيروس 24 مليونا، بلغت حالات الشفاء 16 مليونا، وتوفي 835 ألف شخص.
أمام المعطيات السابقة، نجد أن التجربة الصينية هي الأنسب لغزة، فإغلاق ووقف الحركة لمدة شهرين تقريبًا سيسهم في محاصرة الفيروس، وشفاء المصابين منه، فنكون أمام إجراءات جديدة غالبا ستشهد عودة تدريجية للحياة.
بذلك تنقذ الحكومة بهذه السياسة المشددة أرواح آلاف المرضى وكبار السن الذين سيحيط بهم الفيروس من كل جانب لو انتشر أكثر، خاصة أن غزة ذات المساحة الصغيرة التي لا تتجاوز 365 كيلو مترا مربعا يعيش فيها مليونا شخص، منهم – وفق احصائيات وزارة الصحية الرسمية – نحو 155 ألفا و694 مريضا مزمنا (ضغط وسكر)، وقرابة 8326 حالة مصابة بالسرطان، و880 حالة من مرضى الفشل "الكلوي"، في حين بلغ عدد المرضى الذين أجروا عمليات قسطرة قلبية في المستشفيات الحكومية 3882 مريضًا، و1446 عملية في المستشفيات غير الحكومية.
إن المناداة بـ"التعايش مع الفيروس" هو حكم بالموت؛ وحكم بالغرق في مستنقع لن يخرج منه القطاع لسنوات قادمة، لذا الأفضل والأنسب أن تستمر الإجراءات المشددة لمحاصرة الفيروس، لكن يجب أن يتبع ذلك دعم خارجي من دول العالم لقطاع غزة، وإمداده بأجهزة فحص الفيروس، وأجهزة تنفس، وأدوية، ومستلزمات طبية، وإنشاء مستشفيات جديدة، واستقدام خبراء وأطباء، وإنشاء مختبرات وإمداده باحتياجات أساسية، وتعويض أصحاب الدخل اليومي الذين تعطلوا بسبب الفيروس والشركات والمصانع، وإمداد المناطق المغلقة بالكامل بدعم غذائي، سواء بالدعم الخارجي أو عبر تكافل اجتماعي من جميع المؤسسات العاملة في القطاع، ورجال الأعمال.
صحيح أن التجربة الصينية هي الأنسب لغزة، ولكن تلك التجربة تخللها دعم حكومي وتوفير مواد غذائية – وهذا لا تستطيع الوزارات الحكومية المحاصرة بغزة تقديمه – التي تصرف شهريا 40% من رواتب موظفيها، الأمر الذي يتطلب من المجتمع الدولي الوقوف عند مسؤولياته وتوفير احتياجات القطاع.