لأهمية الموقف التركي في الشأن الفلسطيني وإمكانية تأثيره على القضية بدأت في الكتابة حول مواقف الأحزاب والتيارات السياسية التركية من القضية الفلسطينية تاريخيا وحاليا إلا أنني رأيت أنه من الفائدة إعطاء صورة تفصيلية نوعا ما حول التركيبة الفكرية للأحزاب التركية لتضح الصورة أكثر لدى القارئ الكريم خاصة وأن مواقف هذه الأحزاب تأثرت وتتأثر كثيرا بمرجعياتها الفكرية والأيديولوجية على أن تطرح مواقف هذه الأحزاب والتيارات في مقال قادم.
ونظرًا لتداخل المرجعيات الفكرية للأحزاب التركية وكثرة الانشقاقات فيها ونتيجة التقارب الحاصل بين تركيبة العديد من الأحزاب سأسعها تقسيم هذه الأحزاب على شكل تيارات ويمكن تصنيفها على الشكل التالي:
الأحزاب الكمالية (الأتاتوركية): يدافع العديد من الأحزاب عن الفكر الكمالي باعتباره فكر مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية الحديثة في عشرينيات القرن الماضي وأخذ هذا التيار اسمه منه رغم أن هذا التيار هو امتداد فكري للحركات العلمانية العثمانية والتي بدأت بالظهور في الدولة العثمانية مع بدايات القرن التاسع عشر وعلى رأس هذه الأحزاب حزب الشعب الجمهوري الحزب المؤسس للجمهورية التركية الحديثة ويطلق عليه أحيانًا التيار الأتاتوركي ويتميز هذا التيار بنزعته العلمانية المتطرفة المعادية للتدين ومظاهره وبعد إغلاق حزب الشعب الجمهوري بعد انقلاب 1982 تم تأسيس الحزب الاشتراكي الشعبي الديمقراطي بديلا عن حزب الشعب الجمهوري إلا أنه خلط بين الفكر اليساري والكمالي معًا.
وهناك عدد من الأحزاب المجهرية والتي أسست وتتهم لنهاوتتهم حزب الشعب الجمهوري بالتخلي عن الفكر الكمالي الأصيل ولكن هذه الأحزاب عادة ما تكون متطرفة وليس لها قبول في الشارع نتيجة لذلك.
وترى الأحزاب الكمالية أن معركتها الحداثية تستلزم القضاء على تيار الإسلام السياسي أولًا ولاحقًا القضاء على كل مظاهر التدين وقد قاد معركته مع التدين منذ تأسيسه على يد مصطفى كمال وحتى سنوات قليلة ماضية إلا أن وصوله لقناعة عدم جدوى هذه الطريقة في الصعود لسدة الحكم يبدو أنها أدت لتحول في التعاملات السياسية للحزب حيث انتهج استراتيجية جديدة في التقرب من المحافظين عبر المرشحين المتدينين أو الاحتفاء بالمناسبات الدينية التي كان يعتبرها الحزب نوعا من الممنوعات وهذا الخط لحزب الشعب الجمهوري بقيادة كمال كلتشدار أوغلو بدأ يتسبب بتشكيل جبهة رفض داخل الحزب والتي قد تتجه للانشقاق لتشكيل أحزاب كمالية متطرفة أو تنتهج النهج القديم للحزب الحالي.
الأحزاب اليمينية: وهي الأحزاب ذات الميول والتوجهات الإسلامية والقومية وقد مثل التيار الإسلامي حتى ظهور العدالة والتنمية أحزاب حركة المللي غوروش (الرؤية الوطنية) وهو التيار الذي أسسه البروفيسور نجم الدين أربكان في الخمسينيات، ولكنه ومع تأسيس حزب العدالة والتنمية انتقل الجزء الأكبر من قواعد وقيادات هذا التيار إلى حزب العدالة والتنمية، والذي يعدُّ حزب يمين وسط لكونه حزبا محافظا أكثر من كونه حزبا إسلاميا ولكن الحزب ذو التوجه الإسلامي الذي أسسه نجم الدين أربكان ورغم تراجعه في الشارع إلا أنه بقي يمثل في حزبين صغيرين من حيث الحجم وهما حزب السعادة وحزب الرفاه الجديد والذي أسسه ابن نجم الدين أربكان فاتح.
ومن أهم تيارات الأحزاب اليمينية حزب الحركة القومية الحزب المركزي للتيار القومي التركي وإن اعتبر أنه أصبح حزب التيار القومية المحافظ بعد انشقاق الحزب الجديد ذو الميول القومية ولكن الأكثر علمانية وليبرالية قبل ثلاث أعوام ويؤمن حزب الحركة القومية بأن الانتساب للأمة التركية سابق على الانتساب للدين ويعتبرون الإسلام جزءا أساسيا من ثقافة وهوية هذه الأمة لكن هذا التيار غلب عليه التدين الشكلي وتقلب مواقفه من التيارات الإسلامية في الفترات السابقة خاصة في مواجهة حركة أربكان السياسية. وقد يكون هذا أحد أهم أسباب انشقاق السياسي الشاب محسن يازجي أوغلو عن الحزب الذي كان يقوده المؤسس ألب أصلان تركيش (كان لديه نزعة علمانية وموقف حاد تجاه العرب والمتدينين) حيث أنه رفض دعم حزب الحركة القومية لحكومة يشكلها حزبي الطريق القويم (العلماني) والحزب الاشتراكي الشعبي العلماني الكمالي عام 1993 وتأسيس حزب الوحدة الكبير وهو حزب قومي لكنه يغلب الهوية الإسلامية على القومية التركية في أبجدياته وكان دائما مساند لأحزاب التيار الإسلامي الأيديولوجي.
ومن أحزاب اليمين حزبي حزب التقدم والديمقراطية (دواء) بقيادة الوزير الأسبق علي باباجان وحزب المستقبل بقيادة رئيس الوزراء الأسبق أحمد داوود أوغلو فهي أحزاب يمكن تصنيفها كأحزاب محافظة لكنها فكريا ورغم عدم وضوح رؤيتها السياسية والفكرية بشكل كامل إلا أنه من الواضح أنها ستكون أكثر ليبرالية وميولا للوسط من حزب العدالة والتنمية.
وتشكل أحزاب الحركة القومية والوحدة الكبير مع حزب العدالة والتنمية اليوم تحالف سياسي يسمى تحالف الجمهور. ولكن كل الأحزاب اليمينية حتى أحزاب المللي غوروش لم تعد تحمل الرؤية الأيديولوجية الإسلامية المطلقة بل بدأت تميل نحو الليبرالية المحافظة أكثر نتيجة الضربات العنيفة التي تلقاها التيار بسبب التعسف والقمع السياسيين التي تعرض لها في ظل الانقلابات العسكرية أو الحكومات المحكومة للعسكر.
التيار اليسارية: فقدت الحركة اليسارية بوفاة بولنت أجاويد آخر قادتها التاريخيين والذي كانت لديه القدرة على توحيد اليسار وجمع قواعده في تيار واحد فتشتت الحركة اليسارية بين الأحزاب المتطرفة يسارا وحزب الشعوب الديمقراطي اليساري لكنه في نفس الوقت لديه ميول قومية كردية وانفصالية ويعتبر الذراع السياسي لحزب العمال الكردستاني المسلح اليساري المتطرف والمسجل على قوائم الإرهاب التركية والأوروبية والأمريكية والقواعد الانتخابية للتيار اليساري التركي تصوت في الغالب لحزب الشعب الجمهوري نتيجة لعدم وجود حزب يساري يمثلها فكريا. لذلك فإن التيار اليساري اليوم أصبح غير مؤثر في الشارع التركي بأيديولوجيته وتقاسم ميراثه الجماهيري أحزاب لا تمثل فكره. وقد فقد اليسار كما كل اليسار في العالم ثوريته وقوته الجماهيرية بتراجع البلوك الشرقي لصالح الليبرالية الرأسمالية أمريكية المركز.
التيار الديمقراطي العلماني: فقد شكل هذا التيار منذ إقرار قانون تعدد الأحزاب حتى صعود حزب العدالة والتنمية على الساحة السياسية التركية إما بشكل مستقل غالبا أو بالتشارك مع الأحزاب السياسية الأخرى في فترات قصيرة ومن الأحزاب الأهم في هذا التيار حزب الطريق القويم الذي يعتبر امتداد للحزب الديمقراطي بقيادة مندريس وحزب العدالة بقيادة ديميريل ثم تانسو تشيلر أما الحزب الآخر والذي لا يقل أهمية عنه في التيار الوسط فحزب الوطن الأم الذي أسسه الرئيس التركي السابق تروقوت أوزال والذي رغم دخوله البرلمان عبر حزب السلامة الوطنية ذو المرجعية الإسلامية بقيادة أربكان إلا أنه تحرك بخطه السياسي الليبرالي مقارنة بأربكان وشكل حزبه ذو التوجهات الليبرالية المحافظة وقد زادت وتيرة العلمانية في أيديولوجية هذا الحزب بعد وفاة أوزال وسيطرت خليفته مسعود يلماظ على الحزب نحولكن هذا التيار أيضا كما حدث في التيار اليساري فقد تلاشت قوة هذا التيار كأحزاب مستقلة بعد فقدان القادة المؤثرين ويعتبر حزب العدالة والتنمية هو المظلة التي أظلت غالب قواعد وقادة هذا التيار في صفوفها ومن أبرزهم سليمان صويلو وزير الداخلية التركية الذي كان رئيسا للحزب الديمقراطي (الثاني) والذي أقيل منه لينضم لاحقا لحزب العدالة والتنمية عام 2012.
التداخل بين التيارات الأيديولوجية التركية:
بسبب الأزمات التي عصفت بالسياسة التركية عدة مرات بسبب الانقلابات العسكرية التي نتج عنها وقف الحياة السياسية وتعليق الديمقراطية بشكل كامل خلال القرن الماضي وبالإضافة لنسبة الحسم الانتخابي (التي يتوجب على الحزب تجاوزها في الانتخابات البرلمانية) وهي 10% من أصوات الناخبين فإن الأحزاب السياسية التي تمثل تيارات سياسية معينة وغير قادرة على وصول هذه النسبة كانت تضطر في كثير من الأحيان للعمل تحت مظلة الأحزاب الأخرى وفي الغالب ذات التوجه السياسي القريب وهو ما جعل القواعد الشعبية لبعض الأحزاب تتداخل فيها التيارات الفكرية فيصعب تصنيف هذه الأحزاب بشكل حاد مما انعكس على مواقف بعض هذه الأحزاب من القضايا العامة ومنها القضية الفلسطينية التي سيكون موقف الأحزاب والتيارات السياسية منها ورؤيتهم لحلها محور المقال القادم بإذن الله.