يجمع عدد كبير من المحللين وكبار رجال السياسة على أن العالم مقدم على تغيُّر كبير خلال المرحلة المقبلة، وقد يشمل هذا التغير بروز قوى عالمية جديدة واندثار أخرى أو تغييرًا في موازين القوى والنفوذ التي حكمت العالم منذ الحرب العالمية الثانية، ومن نافلة القول أن أي تغير من شأنه أن يؤثر في منطقة الشرق الأوسط لكونها كانت دائمًا قلب الأحداث العالمية خلال نصف القرن الماضي تقريبًا، كل ذلك يدفعنا للتساؤل حول انعكاسات هذه التغيرات إذا حدثت على المنطقة وعلى فلسطين على وجه الخصوص، ولنستشرف ذلك لا بد من تصور السيناريوهات المحتملة لعمليات التغير العالمية المقبلة وتقلب موازين القوى.
وفقًا لأكثر المحللين فإن سيناريوهات التغير لا يخرج عن أحد السيناريوهات الآتية:
السيناريو الأول: انهيار الولايات المتحدة كقوة أحادية تحكم العالم، وبروز نجم الصين بما تملكه من قوة اقتصادية هائلة وكتلة بشرية عظيمة ومساحة أرض شاسعة، لتأخذ دور الولايات المتحدة وتحل محلها وفقًا لنظرية "الحلول في الفراغ".
أما السيناريو الثاني: فهو أن تتشبث الولايات المتحدة بدورها ولكن لا تصبح اللاعب الأوحد في العالم، فتأخذ الصين دروًا موازيًا لها ويصبح العالم محكومًا من قطبين وانقسام العالم إلى معسكرين وفقًا لما كان سائدًا خلال فترة الحرب الباردة.
السيناريو الثالث: وهو بروز نجم عدة دول صاعدة مثل الهند بجانب كل من أمريكا والصين وروسيا ليصبح العالم عالمًا متعدد الأقطاب، كما يمكن أن يكون هناك تأثير لبعض الدول الصاعدة مثل تركيا، وماليزيا وألمانيا.
وسنحاول في هذه العجالة وضع السيناريوهات السابقة موضع البحث للخروج برؤية حول انعكاس تحقق كل من هذه السيناريوهات على المنطقة وعلى فلسطين على وجه الخصوص.
أولًا: بخصوص السيناريو الأول:
تعتبر الصين بما تملكه من مقدرات اقتصادية وبشرية وحضارة ضاربة في أعماق التاريخ مؤهلة تمامًا لتأخذ دورًا عالميًا فاعلًا ويكون لها اليد الطولى في توجيه مسار الأحداث العالمية خلال الفترة المقبلة.
وقد عُرف عن الصين خلال الفترة الماضية ميلها الواضح لمساندة قضايا الأمة العربية والإسلامية كنوع من التصدي للهيمنة الأمريكية الإمبريالية خلال العقود المنصرمة، ورغم اعتناق الصين للنهج الشيوعي كأسلوب للحكم لكن ذلك لم يمنعها من التحالف مع دول تصنف متشددة دينيًّا كإيران مثلًا، فضلًا عن أنها ساندت معظم حركات التحرر المعادية للمعسكر الغربي خلال الفترة المنصرمة بدءًا بالثورة الفيتنامية ومرورًا بالحرب الكورية وليس انتهاءً بمساندة الثورة الفلسطينية منذ بدايات انطلاقتها..
وما زالت حتى هذه اللحظة تعد داعمًا تقليديًّا للقضايا العربية، ورغم موقف الصين خلال ثورات الربيع العربي المساند للأنظمة الشمولية والدكتاتورية فإن ذلك ينسجم تمامًا مع البعد الأيديولوجي والنظام الشمولي الحاكم في الصين، ولكن بعيدًا عن الأوضاع الداخلية فإن الصين وقفت دائمًا مع الحقوق العربية عندما كانت تطرح قضايا العرب في أروقة المؤسسات الدولية وخصوصًا عندما يتخذ الغرب موقفًا متنكرًا لهذه الحقوق، ولو طرحنا على بساط البحث القضية الفلسطينية على وجه الخصوص سنجد الصين كانت دائمًا من الداعمين التقليديين لكل القرارات التي تدعم حق الشعب الفلسطيني، سواء كانت هذه القرارات صادرة عن الجمعية العامة لأمم المتحدة أو مجلس الأمن.
وعليه فإن هذه النظرة التاريخية تعطينا لمحة لاستشراف مواقف الصين المستقبلية إذا ما قدر لها أن تتسلم زمام قيادة العالم خلفًا للولايات المتحدة، ولكن يجب ألا تنسينا هذه الحقائق التاريخية المتغير الأهم الذي قد يحدث في سياسات الصين تجاه القضايا العربية وخاصة القضية الفلسطينية ألا وهو ما يعرف (بمسؤولية القيادة)، ويقصد بذلك أن مواقف الصين التي عهدناها كدولة عضو مؤثر في مجلس الأمن، وقد لا تكون نفس المواقف إذا كان لها الكلمة الفصل على مستوى العالم كما هو حال الولايات المتحدة الأمريكية الآن..
وذلك يدفعنا ألا نطلق العنان لخيالنا للتفكير بأن الصين قد تقلب موازين العالم كله وتكرس مواقفها السابقة واقعًا عمليًّا على الأرض، "فحسابات السرايا ليست كحسابات القرايا" كما يقول المثل العربي، وهذا يعني أن الصين ستسعى للحفاظ على أكبر قدر من الاستقرار على مستوى العالم وستتعلم من تجربة الولايات المتحدة، وستعمل على عدم إنهاك نفسها في حروب لا طائل منها، وستبقي تركيزها على تعزيز قوتها الاقتصادية بما يضمن لها البقاء في الصدارة لأطول فترة ممكنة، فضلًا عن ذلك فإن الصين وإن كانت تؤيد الحقوق العربية عادة والحق الفلسطيني خاصة، إلا أن هذا التأييد كان محصورًا في نطاق قرارات الشرعية الدولية التي كانت تتمرد عليها (إسرائيل) دائمًا، ومن المعروف أن الصين كانت من الدول الأُوَل التي اعترفت بإسرائيل، وهي لا تتخذ موقفًا يدعو للقضاء على دولة إسرائيل إطلاقًا، وإنما مواقفها كانت تتمثل دائمًا بأن تلتزم إسرائيل قرارات الشرعية الدولية وأن تعطي للشعب الفلسطيني حقوقه من خلال هذه القرارات.
وهذا يعنى أن الوضع الفلسطيني ربما يشهد تحسنًا ملموسًا على مستوى مسيرة السلام ورفع الحصار عن غزة من خلال الضغط الذي سوف تمارسه الصين على (إسرائيل)، ولكن لن تسمح الصين بانهيار (إسرائيل) أو القضاء عليها، وستبقي عليها كصمام أمان لها في المنطقة تستعمله كما استعملته من قبلها الولايات المتحدة في منع إقامة كيان عربي واحد يكون فيه مشروع إمبراطورية عربية هائلة الموارد والإمكانات، ومن ثم هو مشروع تهديد استراتيجي لقيادة الصين للعالم دون ريب وهذا ما لا ترغب به الصين أبدًا في هذه الحالة.