وحيدًا ثم طريدًا وأخيرًا شهيًدا، لأحد عشر يوما بلياليها، ظل ينزف بين الأحراش والزيتون، ارتخى جسده وهدأت أصوات الرصاص.. آثار البارود تركت بصمة على ملابسه في تلك الجبال الوعرة ليكتب الشهيد فخر أبو زايد (53 عاما) حكاية مغلفة بالدم.
11 عشر يوما، متواصلا غاب فخر عن عائلته، وانقطعت أخباره، لا يعرفون أنه مطارد إلا حينما اتهمه الاحتلال بتنفيذ عملية إطلاق نار قرب قرية راس كركر شمال رام الله مما أدى لإصابة أحد جنود الاحتلال بجروح في السادس من فبراير/ شباط، أتبع الاتهام اقتحام بيت فخر وأبنائه بمنطقة بيتونيا غرب رام الله.
بينما كان شقيقه إسماعيل يروي تفاصيل الحكاية، أنصتت صحيفة "فلسطين" لتنقلها إليكم.
"زارني أخي في 13 يناير الماضي، وكانت هذه آخر مرة يزورني وأقابله عندما أجريت عملية جراحية لزراعة شرايين القلب، وفي 6 فبراير فقدنا خبره، حينها اتصل بي ابن اخي ليخبرني أن والده مفقود، وبعدها أبلغنا أجهزة أمن السلطة وبدأنا بالمتابعة معهم عن أخباره إلى أن أعلن الاحتلال الإسرائيلي العثور على الجثمان في 17 فبراير الجاري".. بهذا يستهل حديثه معنا.
لكن لدى شقيقه أسئلة كثيرة بلا إجابات تحتار كلماته أمامها: "ما حدث يجعلنا في حيرة كبيرة، فالاحتلال يتحدث عن جثة ملقاة بين الأحراش لمدة 11 يوما، فلماذا لم تتحلل أو تتأثر بعوامل الطقس، ولماذا انتشله بالجرافة؟ ولماذا وضع "الكفن" الأبيض عليه؟".
ابتسامته التي عكست وجها آخر للشمس، لم يستمدها من الشمس فقط، بل اشتعلت حرارة الثورة في كلماته في نظرة على صفحته على "فيسبوك" تتكون ملامح هذه الشخصية وعقليتها الثورية، كتب هنا: "اضرب عدوك وبقوة، في الوقت الذي بات يظن أنك انتهيت".
"المقاومة على الأرض وليس في الأفواه فقط تُخْرِس البلدوزر الهدّام، وهنا كان له رسالة أخرى: "صغيري كوشنير.. فلسطين أرض محتلة مجبولة بدماء الشهداء، ومقدساتنا ليست للبيع".
"لدينا خيار ناجع؛ بناء منظمة التحرير بانتخاب مجلس وطني يفرز لجنة تنفيذية ورئيس للمنظمة.. هذا الخيار هو الطريق فاسلكوه جميعا في الوطن والشتات؛ فتتوقف السلطة العجوز والمجلس الوطني العجوز واللجنة التنفيذية العجوز والمجلس المركزي العجوز عن حلبنا أو جزّ رؤوس بنادقنا وكرامتنا وعنفواننا الوطني ومقاومتنا" وهذه من كتاباته.
تهديد إسرائيلي
لكل شيء ثمن كما يقولون، للكلمات وللمواقف الشجاعة كذلك، وهذا ما دفعه فخر كذلك، بدأت قصته مع الملاحقة عام 2014 على خلفية نشر كاميرات منجرته لفيديو يوثق جريمة بحق الشهيدين " نديم نوارة وأحمد سلامة" في منتصف أيار/مايو من ذلك العام.
"مين مفكر حالك، بدعس على راسك".. ضابط إسرائيلي يدعى «الكابتن صبري» هدده بإحراق منجرته عبر المكالمة الهاتفية السابقة، وزاد في تهديده: "عليك أن تخرج وتقول إن فيديو قتل نوارة وسلامة ليس حقيقياً".
لكن التهديد لم يثمر، إذ نجحت عائلة نوارة في الوصول إلى محكمة دولية بناءً على هذا التوثيق.
"رغم أن أخي عمل ضابطا بعد قدوم السلطة لمدة أربع سنوات في جهازي المخابرات والأمن الوطني وتركها بنفسه، لكن لاحقته بعد حادثة الفيديو السابقة".. يقول أبو زايد إن شقيقه، يصنف في الأوساط المجتمعية كرجل أعمال في بيتونيا.
"الورشة" أم "الفيلا"..؟
"الورشة" .. هذا الاسم الذي أطلقه فخر على بيته، صوته يتألم خلف أنات الوجع، يحاول شقيقه أن يتماسك قليلا، عائدا عند تلك اللحظات بصوت يسكنه الحزن: "كان يقول طالما لم أسكن بها سأسميها الورشة".
احتسى جرعة من صمت ثم أكمل : "للأسف؛ رحل ولم يهنأ في البيت الجديد ولو دقيقة".
بحسن إدارته وضع فخر اسمه بين رجال الأعمال في بيتونيا، امتلك عدة عقارات وأراض، وهذا ما كان سببا لاعتقاله من قبل أجهزة أمن السلطة التي كان سابقا أحد عناصرها، تحت عنوان: "من أين لك هذا؟"، يتوقف شقيقه بحديثه هنا: "لم يجدوا عليه أي شيء خاطئ، فكانت تجارته سليمة".
يجبره الموقف على إخراج ضحكة بين أنياب الحزن، مستذكرا موقفا عن عمل شقيقه التجاري: "لم نكن نطلع على تجارته العقارية، لكن ذات يوم طلب أحد أصدقائي أن أدله على اسم صاحب أرض أراد شراءها، وكانت مساحتها 700 متر مربع، وحينما سألت تفاجأت بأنها لأخي ".
الشهيد الذي بلغ سن الثالثة والخمسين عاما لديه ثلاث بنات ومثلهم أولاد، أصغرهم عمر (13 عاما) وأكبرهم هيثم (23 عاما).
تظهر وثائق خاصة حصلنا عليها من العائلة، محاضر مداولات لجلسات محاكمة بنيابة رام الله ومحكمة الصلح فيها، تتهم فيها فخر أبو زايد بحيازة ثلاث بنادق من نوع m16، وجهت له النيابة وجهاز مخابرات رام الله تهمة التجارة بالسلاح، والذي نفاه الشهيد في رده خلال المحاضر على الادعاءات، وبرر سبب شراء السلاح بأنه لحماية أمنه الشخصي بسبب الأوضاع السياسية والأمنية بالضفة كونه يعمل تاجرا، بدورها أمرت محكمة الصلح برام الله بتاريخ 6 إبريل 2016 بالإفراج عنه وإخلاء سبيله، وتظهر المحاضر أن الشهيد اشتكى من تعرضه للتعذيب داخل السجون خلال مدة التوقيف.
يعلق شقيقه بالقول: "بعد حادثة الفيديو عام 2014م، حدثت ملاحقة غير مفهومة واستدعته أجهزة الأمن نحو خمس مرات كان يمضي خلالها أسبوعا، من قبل السلطة حتى استشهد".

