خصم مجهول
شهدت الآونة الأخيرة حملة سيبرانية شعواء، استهدفت العديد من الحسابات الفلسطينية على شبكة التواصل الاجتماعي "فيسبوك". وبين إغلاق دائم، أو حجب مؤقت، يتبادر إلى الذهن عدة تساؤلات، حول الجهة التي تقف خلفها، وأسبابها، وسر توقيتها؟ وللموضوعية، يصعب على أي فرد أو مهتم تقديم إجابات شافية دون بحوث متخصصة، ترصد بدقة للجهة التخريبية المجهولة، وبالتالي تفسير دوافعها. وبكل الأحوال، سأحاول عبر الكلمات القليلة الآتية، تصحيح بعض المفاهيم التي انتشرت كجزء من حالة التفسيرات العشوائية التي صاحبت الحملة، علها تساعد في ضبط البوصلة باتجاهها المفترض.
وأول هذه المفاهيم، ما يتعلق بالمسؤولية المباشرة، حيث يحصر العديد من النشطاء التهمة في شركة فيسبوك، متجاهلين إحتمال وجود طرف ثالث، يعمل كمحرض، ويوفر من المسوغات (القانونية) ما يدفع الشركة للاستجابة. وبمراجعة الأدبيات العلمية التي حللت لظاهرة إغلاق الحسابات، يتضح على الدوام وجود جهة مجهولة، مكرسة لمحاربة المحتوى، تعمل على تقليص حجم تأثيره، ومنع إحتمال بلوغه مجتمعات شبكية خارجية. ومن بين الآليات التي تستخدمها، ما يعرف بخاصية (التبليغ) الجماعي عن أي حساب أو محتوى، ترى فيه الجهات المجهولة خطرًا على سيادة روايتها. وهنا، يقفز سريعًا إلى الذهن دور محتمل للكيان (الإسرائيلي)، سيما وأنه يمتلك جيشًا رسميًا ومتطوعًا لتأدية مثل هكذا مهمات. ولكن مهلًا، كيف يمكن القطع بمسؤولية الكيان، خاصة مع وجود جهات أخرى تسعى إلى إلغاء أو تقليص حجم التأثير الذي تتمتع به حركة حماس على الفضاء الشبكي.
دعونا هنا نعود للسياق الزمني، فالحملة انطلقت وتوسعت فور انتهاء أحداث حراك "بدنا نعيش"، كما تزامنت مع ظهور جيش "الهبد الإلكتروني"، ما يثير فرضية دور محتمل لجهات داخلية؛ لا سيما أن المواجهة السيبرانية بين النشطاء الفلسطينيين بلغت مستويات لم نعهدها سابقًا. وللحقيقة، فإن استهداف اسماء إعلامية كبيرة، إلى جانب نشطاء تقليديين، يدعم ولو بالحد الأدنى احتمال تورط جهات محلية، خاصة وأن الكيان يتحاشى تنفيذ مثل هكذا حملات لأسباب تتعلق بالجمع المعلوماتي الإستخباراتي، وإمكانية تسخير خطاب النشطاء لمصلحته الدعائية الخاصة.
وبكل الأحوال، وأيا كانت الجهة التي تقف خلف الحملة، لابد من التأكيد على جملة ملاحظات: أولها، تميز الحملة بالتنظيم والاستمرارية، في دلالة على وجود جهة متفرغة بشكل تطوعي أو مدفوع، تتشابه في وظيفتها مع جيوش المتصيدين الروسية. ثانيًا، اعتماد الحملة على مبدأ تحديد وتتبع الأفراد والمجموعات الشبكية، وهذا مؤشر على وجود قاعدة عملية ينطلق منها موجهي الحملة. ومن غير المعروف مدى تسخير هذه الجهات لتقنية الذكاء الاصطناعي، أو اكتفائها بالعنصر البشري لتنفيذ التتبع؛ ولكن سرعة إغلاق بعض الحسابات التي يعاد انشائها، يوحي بوجود وسائل تتبع ورصد تقنية ذكية، لعل الروبوتات الاجتماعية إحداها. ثالث هذه الملاحظات، وأهمها، احتمال وجود إختراق للمجتمع الشبكي الخاص بحركة حماس على منصة فيسبوك، ما يجعل من سرعة إغلاق الحسابات أمرًا يسيرًا، خاصة إذا ما اعتمد هذا الاختراق على مبدأ البصمة أو الدمغة الشبكية لكل مستخدم.
وأخيرًا، يتضح يومًا بعد يوم تعاظم التحديات التي يواجهها المستخدم الفلسطيني على مواقع الشبكات الاجتماعية، الأمر الذي يتطلب مقاربات جديدة في فهمها، بموازاة الإطلاع من كثب على آخر العلوم التي ترصد للتطورات المرتبطة بها، سيما تلك التي ترصد للممارسات الخفية الملتوية.