حيدر المصدر
باحث في مجال الإعلام السياسي والدعاية
ظهرت أخيراً مؤشرات تؤكد وجود عملية دعائية داخلية شبه منظمة تتخذ من مواقع الشبكات الاجتماعية وسيلة لها، تستهدف عزل المقاومة الفلسطينية في غزة عن حاضنتها وحصنها المجتمعي، لأجل تحصيل مكاسب غير معلنة على الجبهة السياسية. والملاحظ أن العملية تواكب تطورات شهدها مفهوم "عمليات التأثير السيبرانية"، سيما على مستويي التخطيط والتنفيذ، وما يتصل بهما من توظيف لناشطين مؤدلجين وفق مبدأ "التعهيد الجماعي"، وتسخير أساليب حديثة كالتنقيب الدعائي، والتصيد، والتزييف البصري... وغيرها. وهذا يعني أن غزة تواجه نمطَ تأثير حديثا، لم تألفه سابقاً، ويحتاج من القائمين عليها إلى رعاية جهود مضادة غير تقليدية.
ومن هذا المنطلق نجد أنفسنا ملزمين بطرح مجموعة ملاحظات، نسعى عبرها إلى تصويب بعض المفاهيم المتداولة، وبالتالي إيجاد قاعدة متماسكة تشكل منطلقاً لمواجهة هذا التحدي، أو على الأقل التخفيف من تأثيره، سيما أن المتطلبات والتحديات المرتبطة به كثيرة ومتشعبة. وأولى هذه الملاحظات ما يتعلق بالتصنيف، فهذه ليست حملة بل عملية، والفرق بينهما كبير بحسب فقهي الدعاية وعمليات التأثير. فالأولى مرتبطة بسقف زمني محدود، وأذرع اشتغال محصورة، تنتهي بانتهاء الهدف الذي غالبا ما يعد تكتيكيا. أما الثانية فمتواصلة وممتدة، تتسع فيها دائرة المشتغلين، وفق مبدأ المزامنة، ولا تتوقف حتى تحقق هدفها الذي يتصف بكونه إستراتيجيا. والسابق يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن العملية الدعائية التي نشهدها أخيراً لا تهدف إلى مجرد التشويه أو الفضح أو تحصيل نتائج متواضعة مؤقتة، بل تسعى لما هو أكبر، قد يصل إلى حد الاستئصال الكامل، ولكن بطريقة تراكمية متدحرجة ناعمة.
الملاحظة الثانية ما يتصل بطريقة تنفيذ الدعاية، فهي منسقة على أكثر من مستوى، فرديا وجماعيا، وتترك لدى الفرد العادي انطباعا قويا لكنه مزيف بصدورها عن قاعدة جماهيرية أصلية. ويعرف هذا النوع من التضليل في الأوساط الأكاديمية باسم "الإجماع المزيف"، التي يسعى من خلاله المشغل إلى إخفاء مصدر الرسالة الحقيقي، من خلال الإيهام أنها نابعة من مشاركة شعبية واسعة، تلقائية غير متحكم بها أو مدفوعة. ويندمج هذا التأثير بآخر تشغيلي أشد خطورة، يعرف باسم "التحشيد الشعبي المزيف"، وهنا يُطلب من مجموعة مستخدمين نشر معلومات أو مشاركة تعليقات تخدم هدفا دعائيا أو سياسيا ترغب جهة الدعاية في تحقيقه، دون أن تكشف عن هويتها. وخطورة ما سبق على الحالة الداخلية تتجسد في قدرتها على خلق عدوى إلكترونية تجذب إليها مشاركات شعبية متزايدة، بعد أن تنجح في إيهام جزء كبير بصحة معلوماتها أو أخلاقية فكرتها، لتتمكن في النهاية من صناعة إجماع مزيف، دون أن ندرك أنها في أصلها عملية دعائية منظمة ومدروسة، بالرغم من مظهرها الخارجي الفوضوي.
الملاحظة الثالثة الأخيرة ما يتعلق بفهمنا للدعاية، والتطورات التي شهدتها أخيراً، سيما على الفضاء الأزرق. فالواضح من خلال الملاحظة وجود فجوة كبيرة بين الفهم والممارسة، وبين المعرفة والتخطيط، وبين الأسلوب والتأثير، وبين التقليدي والحديث، وهذا يتطلب منا مراجعة حقيقية وجادة، خاصة أن أطرافا داخلية سبقتنا في هذا المضمار، بعد أن تصدرنا نحن في سنين خلت.