يبدو أنّ تناقضات وتخبّطات عدّة تعتري سياسة رئيس السلطة محمود عباس عدة على الصعيدين الداخلي والخارجي، في وقت تواجه القضية الفلسطينية تحدي ما تعرف بـ"صفقة القرن" الأمريكية.
ولعلّ التناقض الأول أن عباس (84 عاما) الذي يعارض إعلاميا تلك الصفقة، هو في مقدمة من روج لها في لقاء جمعه بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب في سبتمبر/ أيلول 2017، عندما شكر الأخير "على إتاحة الفرصة" للقائه، قائلا: "إن دلّ هذا على شيء إنما يدل على جدية الرئيس (ترامب) أنه سيأتي بصفقة العصر للشرق الأوسط خلال العام أو الأيام القادمة".
وبعد أشهر معدودات أعلن ترامب مدينة القدس المحتلة "عاصمة" مزعومة لـ(إسرائيل)، عدا عن قطعه المساهمة الأمريكية في ميزانية وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، وتشجيعه الاستيطان في الضفة الغربية التي تؤكد الإحصاءات تضاعفه لسبع مرات منذ توقيع اتفاق أوسلو سنة 1993.
أما التناقض والتخبّط الثاني فهو أن عباس يقر بنقض (إسرائيل) كافة الاتفاقات مع السلطة الفلسطينية، لكنه يؤكد التزام الأخيرة بهذه الاتفاقات حتى الآن، بما في ذلك التنسيق الأمني الذي ادعى مرارًا تعطيله مؤقتًا.
ورغم أن عباس أعلن وقف الاتصال مع الإدارة الأمريكية، فإنه قال في كلمته أمام مجلس جامعة الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية مؤخرا: "هناك اتصالات أخرى استمرت ومستمرة إلى الآن"، وهو ما يمثل التناقض الثالث.
وكان الرجل يقصد بذلك بروتوكولات بين السلطة و83 دولة عربية وأجنبية تتعلق بالتعاون الأمني لمحاربة ما يسمى "الإرهاب"
ويتمثّل التناقض والتخبط الرابع في اتهام عباس، حركة حماس برفض المصالحة، رغم أنه يواصل عقد مجالس منظمة التحرير الانفصالية في رام الله المحتلة ووسط مقاطعة حتى من معظم فصائل المنظمة، وتنصّله من بند في جميع اتفاقات المصالحة ينص على عقد لجنة تفعيل وتطوير منظمة التحرير التي تضم الأمناء العامين للفصائل.
وعدا عن ذلك، ردّ رئيس السلطة الذي انتهت ولايته القانونية في 2009، على اتفاق المصالحة الموقع في 2017،بفرض الإجراءات العقابية على قطاع غزة منذ مارس/آذار 2017 بما يشمل الخصم من رواتب موظفي السلطة فيه بنسب تتراوح بين 50% و70%، وإحالة الآلاف للتقاعد القسري، ويمس قطاعات حيوية كالكهرباء والأدوية والمستلزمات الطبية.
ورغم تسلم السلطة معابر القطاع في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2017، وفق اتفاق المصالحة الموقع في القاهرة بين حركتي حماس وفتح في 2017، فضلا عن تسلمها الوزارات، فإنها ظلت تتذرع بما تصفه "التمكين" للقيام بمهامها، وهو ما قابله مراقبون بتساؤلات عن هذا المصطلح الفضفاض، وذلك قبل أن تعلن السلطة سحب موظفيها من معبر رفح البري الحدودي بين القطاع وجمهورية مصر العربية.
ونص الاتفاق المذكور على سرعة إنجاز اللجنة القانونية/ الإدارية المشكلة من قبل حكومة رامي الحمد الله التي تمخضت عن إعلان الشاطئ في 2014، لإيجاد حل لموضوع موظفي القطاع، قبل الأول من شهر فبراير 2018 كحد أقصى، مع مشاركة خبراء ومتخصصين ومطلعين من قطاع غزة للجنة المذكورة في عملها، وقيام الحكومة على استمرار استلام الموظفين لرواتبهم خلال عمل اللجنة اعتبارا من راتب شهر نوفمبر 2017.
لكن حكومة الحمد الله، التي استبدلها عباس مؤخرا بحكومة انفصالية يرأسها عضو اللجنة المركزية لحركة فتح محمد اشتية، لم تصرف أي رواتب للموظفين الذين عينتهم الحكومة الفلسطينية السابقة برئاسة إسماعيل هنية في القطاع.
إضعاف البنية الفلسطينية
ولعل التناقض الخامس يتمثل في تغني عباس بمنظمة التحرير، وفي المقابل بقيت قرارات المجلس المركزي بوقف التنسيق الأمني و"تعليق" الاعتراف بـ(إسرائيل) حبيسة الأدراج.
والتناقض السادس يكمن في كلام عباس عن إيمانه بالديمقراطية والانتخابات رغم أنه حل، بقرار من المحكمة الدستورية التي شكلها في رام الله دون توافق وطني، المجلس التشريعي المنتخب في 2006 والذي تكتسح حماس أغلبية مقاعده، ثم تحدث عن تنظيم انتخابات تشريعية فقط دون انتخابات لرئاسة السلطة والمجلس الوطني بعكس ما تنص عليه اتفاقات المصالحة.
بينما يتجسد التناقض والتخبط السابع في زعم عباس دفع 100 مليون دولار شهريا لحساب غزة، في حين يؤكد المراقبون أن السلطة في رام الله تجبي ما يزيد على 100 مليون دولار شهريا من أموال المقاصة المفروضة على البضائع التي تدخل إلى قطاع غزة وتضعها في خزينة السلطة دون أن تصرفها على الغزيين.
أما التناقض الثامن فيتمثل بتظاهر عباس بالتحذير مما يسميه "فصل غزة"، لكنه هو من يفرض العقوبات على القطاع وأعدت حكومة الحمد الله السابقة ميزانية انفصال عام 2018، وقد أكد رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو لصحيفة "يسرائيل هيوم" الشهر الجاري أن عباس فرض تلك العقوبات لـ"إشعال القطاع".
ولا يبدو أن عباس يتخذ أي إجراء عملي لمواجهة الاستيطان الذي التهم معظم الضفة الغربية المهددة بما يسمى "الضم".
في المقابل تؤكد فصائل المقاومة في غزة أن تفاهمات تثبيت وقف إطلاق النار ليس لها أي ثمن سياسي، وأنها ترمي إلى انتزاع حقوق أساسية للفلسطينيين في القطاع المحاصَر منذ 13 سنة، مشددة في الوقت نفسه على وجوب تحرير فلسطين كاملة.
ويتمثل التناقض التاسع بأن عباس الذي يتحدث عن حقوق الشعب الفلسطيني، لا يؤمن بحقه المكفول في القانون الدولي المتمثل بخيار المقاومة المسلحة، كما أنه تخلى عن حقه في العودة إلى مدينته صفد.
إصرار على التفرد
من جهتهيقول مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، محسن صالح: ما قامت به قيادة السلطة من عقوبات على قطاع غزة وإصرار على الانفراد بالقرار الفلسطيني وعدم إنفاذ برنامج المصالحة وعقد المجلسين الوطني والمركزي تحت الاحتلال حتى في ظل مقاطعة معظم فصائل المنظمة، وكذلك حل "التشريعي" وتشكيل حكومة فتحاوية كلها سياسات تصب في إضعاف البنية الداخلية الفلسطينية.
ويحذر محسن في حديث مع صحيفة "فلسطين" من أن تلك السياسات تتعارض مع المصالح العليا للشعب الفلسطيني.
ويتمم: إذا كان عباس يتباكى على المصالح العليا للفلسطينيين ويرفض صفقة القرن فليضع يده بيد كافة القوى الفلسطينية ويمس نبض الشارع، مردفا: لا أراهن على سياسات عباس خصوصا مع وجود عقلية انفرادية تريد الهيمنة على القرار السياسي ولا تؤمن بالشراكة لاسيما في ظل استطلاعات رأي تطالبه بالاستقالة.