تتهاوى أشكال الموت على عشرات آلاف العائلات في محافظة شمال قطاع غزة للشهر الثاني تواليا، ولا صوت يُسمع سوى استغاثات أبرياء وجدوا أنفسهم بين مطرقة القصف وسنديان التعطيش والتجويع والحرمان من مقومات العيش.
يحدث ذلك علنا في القرن الـ21 الذي تجر فيه (إسرائيل) ترسانتها العسكرية وجنودها إلى مخيمات لاجئين هجرت العصابات الصهيونية أجدادهم من أراضيهم قبل 76 سنة، لتقتل وتأسر منهم من استطاعت، وتدمر مدنا وبلدات على رؤوس من فيها أملا في تهجير البقية وإحالة العيش إلى الاستحالة، كما يخطط جنرالات الاحتلال.
وفي سبيل ذلك تعفي قوات الاحتلال نفسها من أي خطوط حمراء وتستحل ما حرمته حتى القوانين الدولية، حتى أوصلت المواطنين بنسائهم وأطفالهم إلى "خطر وشيك بالموت" وفق توصيف بيان لرؤساء وكالات الأمم المتحدة، صدر أخيرا.
لكن من غير المعلوم إذا ما كان العالم "سيتصرف تجاه أحلك اللحظات" في غزة كما طالبه مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك، في وقت يسود فيه الصمت العالمي، والتواطؤ الغربي، والتعاون الأمريكي مع حرب الإبادة الجماعية.
وجاءت مطالبة تورك في وقت نبه فيه إلى أن القصف في شمال قطاع غزة لا يتوقف ولا وسيلة آمنة للمغادرة، وأن غزة تواجه ما يمكن أن يرقى لمستوى الجرائم الوحشية بما في ذلك ما قد يصل إلى جرائم ضد الإنسانية.
ومنذ شهر بلغت حصيلة ضحايا العدوان البري والبحري والجوي على شمال القطاع أكثر من 1800 شهيدا، و4000 مصابا، ومئات المفقودين، وفق بيان للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة.
وفي واحدة من أبشع المجازر، استشهد وأصيب أكثر من 150 مواطنا بتفجير الاحتلال 11 منزلا بمخيم جباليا في 24 أكتوبر/تشرين الأول، في وقت قال الأمين العام للأمم المتحدة أنتونيو غوتيريش: الناس في شمال غزة يعانون من الحصار الإسرائيلي المستمر ويستنفدون بسرعة كل وسائل البقاء على قيد الحياة.
ولاحقا قال غوتيريش: محنة المدنيين الفلسطينيين المحاصرين في شمال غزة لا تطاق، وتوصيل المساعدات الإنسانية لغزة لا يزال يواجه رفضا من (إسرائيل) "باستثناءات قليلة".
وجاءت تصريحات غوتيريش بينما منع الاحتلال المرحلة الأخيرة من حملة التطعيم ضد شلل الأطفال في شمال قطاع غزة ما يعرض حياة آلاف الأطفال للخطر.
كما نفذ الاحتلال مجزرتين في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني بقصف عمارات سكنية في شمال قطاع غزة راح ضحيتهما 84 شهيدا وعشرات المصابين، بحسب بيان للمكتب الإعلامي الحكومي.
واستشهد أكثر من 43 ألف مواطن، وأصيب ما يزيد عن 100 ألف آخرين منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وفق وزارة الصحة بغزة.
وفي السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي أصدر جيش الاحتلال ما سماها "أوامر إخلاء جديدة لبلدات ومناطق عدة في شمال قطاع غزة منها بيت حانون وبيت لاهيا وجباليا"، في محاولة لإجبار المواطنين على النزوح، استمرارا لفصول حرب الإبادة الجماعية منذ أكتوبر 2023.
ودمر الاحتلال البنية التحتية في محافظة شمال قطاع غزة ما جعل التنقل أمرا شبه مستحيل، وفق تأكيد جهاز الدفاع المدني في 10 من الشهر الماضي.
وعزز جيش الاحتلال ممارسة الإبادة الجماعية في جباليا ومحافظة شمال قطاع غزة ومنع طواقم الإسعاف والدفاع المدني من انتشال أكثر من 75 شهيدا، بحسب بيان للمكتب الإعلامي الحكومي في 12 من الشهر الماضي.
وأفاد رئيس بلدية بيت لاهيا علاء العطار في 17 من الشهر الماضي بأن الاحتلال حاصر مناطق شمال غزة ومنع دخول الغذاء والدواء بهدف دفع السكان للنزوح، كما منع دخول المياه الصالحة للشرب والسولار لشمال القطاع.
وأشار في تصريحات صحفية إلى عدم وجود وقود لتشغيل المستشفيات وسيارات الإسعاف ومحطات ضخ المياه في شمال غزة.
وتطابق ذلك مع بيان في اليوم التالي لمنظمة هيومن رايتس ووتش أكدت فيه أن جيش الاحتلال "أمر السكان المدنيين في شمال غزة بالإخلاء وقطع المساعدات الغذائية عمن تبقوا".
وأوضحت "هيومن رايتس ووتش" أنه منذ بداية أكتوبر/تشرين الأول الماضي أمر جيش الاحتلال 400 ألف شخص بمغادرة منازلهم في شمال غزة، وهو يجبر المدنيين بشكل غير قانوني على ترك شمال غزة دون مكان آمن يذهبون إليه.
وقال منسق الأمم المتحدة الخاص للشرق الأوسط تور وينسلاند في 20 أكتوبر/تشرين الأول: المشاهد مروعة في شمال غزة، في حين قالت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين أونروا: كل دقيقة لها قيمتها وتأخر السماح بدخول شمال غزة يؤدي إلى عدم تمكن فرق الإنقاذ من الوصول إلى الجرحى.
ووصف مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل، في 22 من الشهر الماضي التقارير عن شمال غزة بأنها مروعة والمعاناة من تجويع وتهجير قسري لا يمكن تبريرها معربا عن إدانته قصف مرافق لأونروا.
في حين قالت أونروا: الناس في شمال غزة ينتظرون الموت ويشعرون بالهجران واليأس والوحدة، وطالبت بالسماح لها وللمنظمات الإنسانية بالوصول والدخول إلى شمال قطاع غزة.
كما قال المتحدث باسم الأمم المتحدة فرحان حق في 23 أكتوبر/تشرين الأول: هناك مستويات مروعة من الموت والإصابات والدمار في شمال غزة، مضيفا: شركاؤنا على الأرض يفيدون أن محطتين للمياه في شمال غزة توقفتا عن العمل بسبب نقص الوقود.
وفي إطار استهداف الشرطة في غزة، استشهد مدير شرطة بلديات شمال قطاع غزة مازن الكحلوت باستهداف إسرائيلي قرب مستشفى اليمن السعيد في 23 من الشهر الماضي.
صحيا، حذرت منظمة أطباء بلا حدود أيضا من أن شمال غزة يواجه شتى أنواع الموت بسبب القصف الإسرائيلي العنيف والمتواصل.
ووصفت منظمة الصحة العالمية في 26 من الشهر الماضي الوضع في شمال قطاع غزة بأنه كارثي.
ولاحقا قال صندوق الأمم المتحدة للسكان: مستشفيات غزة متوقفة عن العمل بسبب اعتقال طواقمها ومصادرة معدات أساسية.
وأكد توقف آخر وحدة للعناية المركزة لحديثي الولادة في شمال غزة.
وقال رئيس وزراء النرويج في 28 أكتوبر/تشرين الأول: من المثير "للقلق" أن نشهد في هذا العصر مجاعة وموتا وشيكا بين مئات آلاف الضعفاء في شمال غزة.
وعلى صعيد المساعدات، أكدت منظمة "أوكسفام" في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني أن المساعدات لا تصل للمناطق المأهولة بالسكان في شمال غزة على الإطلاق وكميات صغيرة فقط تصل مدينة غزة.
وفي محاولة للتغطية على جرائمها، استهدفت قوات الاحتلال الصحفيين وأصابت في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول مصور قناة الجزيرة فادي الوحيدي بطلق ناري في الرقبة، وفي وقت سابق، استهدفت طائرة إسرائيلية طاقم قناة الأقصى أثناء تغطيته الأحداث في جباليا، حيث استشهد مصورها محمد الطناني وأصيب مراسلها تامر لبد.
*قرب النهاية*
"من كان يتوقّع أن يحدث ذلك في القرن الحادي والعشرين، وهو يُنقَل حيّا على الهواء، لكنه يمرّ عاديّا مع بضع تعليقات خجولة من هنا أو هناك، كحال تعليق الدولة (العُظمى أمريكا) التي توفّر القنابل للغزاة لأجل قتل الأطفال والنساء وعموم الأبرياء"، والكلام هنا للكاتب والمحلل السياسي ياسر الزعاترة.
وأضاف الزعاترة في تغريدة على منصة إكس: هذا مستوى من الوحشية لم يُعرَف حتى في تاريخ "الكيان" ذاته، وهي عادة الغزاة حين يشعرون بقُرب النهاية.
وتابع: حين كان يَقتل حشدا من المدنيين خلال اغتيال مُقاوم، كان يفتح تحقيقا، ولو من باب ستر العورة وبيْع "الأخلاقية"، لكنه منذ السابع من أكتوبر 2023 بات يقتل بلا حساب، وبأعداد ووحشية لم يعرفها تاريخ الصراع، كأنه فقد الاهتمام بالصورة التي كان يبيعها على العالم منذ عقود.
وأكد الزعاترة أن هذه معادلة سترتدّ على الاحتلال من دون شك، "لكن القهر يكمن في هذا الموقف المتردّي للنظام العربي الرسمي، مع أن بوسعه أن يفعل الكثير لوقف المجزرة".
وتابع: لم يحدث أن كان الوضع العربي الرسمي بهذا المستوى من البؤس، منتقدا تمسك السلطة في رام الله بالتنسيق الأمني مع الاحتلال.
وتمم كلامه: "هي مرحلة تاريخية مرّت بها شعوب كثيرة في طريقها نحو التحرّر، وستكون كذلك بالنسبة لشعبنا، بإذن الله".
من ناحيتها أكدت هيئة علماء فلسطين في تغريدة على "إكس" أنه ما كانت لترتكب (إسرائيل) هذه الجرائم لولا ضمانها الحصانة والتمتع بحماية دول الغرب بل وإمدادها بكل ما يلزم للاستمرار في حرب الإبادة الجماعية.
وهكذا يكون المجرم معلوما، والضحية لا يجد له ناصرا في عالم يتغنى بالقيم الإنسانية ويشتهر بممارسة ازدواجية المعايير عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية.