فلسطين أون لاين

تفاصيل "قاسية" يرويها ناجون في اللَّحظة الأخيرة- من الموت..

شمال قطاع غزَّة... 30 يومًا من الإبادة والتَّجويع والتَّطهير العرقيِّ

...
شمال القطاع... 30 يومًا من الإبادة والتَّجويع والتَّطهير العرقيِّ
غزة/ يحيى اليعقوبي:

بلا أوامر إخلاء وبلا إنذارات بدأ جيش الاحتلال هجومه الدموي على مخيم جباليا وشمال قطاع غزة مساء 5 أكتوبر/ تشرين أول 2024، وتفاجأ الأهالي بهجوم إسرائيلي متزامن من المدفعية والطائرات ومسيرّات الاحتلال.

رافق الهجوم توغل لآليات ودبابات الاحتلال التي بدأت بالتقدم محاولةً تطويق المخيم من الشرق والغرب، فتحول طريق دوار "أبو شرخ" الذي يربط المخيم بمدينة غزة وبمنطقة جباليا البلد ويسلكه النازحون لممر للموت، استشهد على أرصفته عشرات الشهداء وهم يحاولون النجاة من القتل.

على مدار شهر من القتل والإبادة والتدمير وعملية تطهير عرقي للسكان ومنع الغذاء والمياه والدواء، تعمد الاحتلال تجويع 400 ألف إنسان يعيشون في شمالي القطاع، منهم نحو 150 ألف مواطن لا زالوا يرفضون النزوح القسري عند مخيم جباليا وبلدة بيت لاهيا، ويتشبثون بمحافظة الشمال في مواجهة عاصفة التجهير أو ما يعرف باسم "خطة الجنرالات" القاضية بتجويع الأهالي لتهجيرهم أو محاصرتهم حتى الموت.

ولم يدخل الاحتلال أي مساعدات غذائية لشمال القطاع حتى قبل الهجوم الدموي بعدة أسابيع، الأمر الذي أدى إلى انتشار المجاعة بين المواطنين أدت لتفاقم الحالات الصحية للأطفال التي بدت علامات سوء التغذية واضحة على أجسادهم النحيلة، العديد منهم توفي جراء الجوع.

الملاذ الأخير

وأدى القصف المتواصل من الطائرات والدبابات والمدفعية والطيران المسيرّ لنزوح أهالي مخيم جباليا ومنطقة تل الزعتر إلى منطقة مشروع بيت لاهيا التي باتت تشكل "الملاذ الأخير"، ويواصل الاحتلال ارتكاب المجازر اليومية فيها لدفعهم نحو النزوح لمدينة غزة، في عملية تطهير عرقي تتم على مرأى ومسمع من العالم.

وبلغت حصيلة العدوان المستمر على الشمال، حسب ما أعلنه المكتب الإعلامي الحكومي في غزة نحو 1800 شهيد، وأصيب 4 آلاف جريح جراء الهجوم المستمر، يرافقه منع الطعام والدواء وحليب الأطفال واستهداف عشرات مراكز الإيواء التي تؤوي عشرات الآلاف من النازحين.

كانت مجزرة الاحتلال الدموية بحق عائلة أبو نصر إحدى أبشع المجازر التي ارتكبها بمحافظة الشمال خلال الشهر، بعد استهداف عمارة سكنية مكونة من أربعة طوابق صبيحة الثلاثاء الموافق 29 أكتوبر/ تشرين أول 2024، وتؤوي نحو 200 نازح معظمهم جاؤوا للمنزل من مخيم جباليا وغرب بيت لاهيا، لتوقع المجزرة أكثر من 120 شهيدًا، دفنوا في سوق المشروع الذي تحول لمقبرة جماعية بينهم أكثر من 25 طفلاً.

مع مساء الاثنين، تفاجأ محمد نبيل أبو نصر باستهداف منزل مجاور لهم، وكان خروجه لتفقد ما حدث في بيت الجيران نجاة له، رغم أنه تعرض لإطلاق النار من الطائرات المسيّرة (كواد كابتر) ومع عدم استطاعته العودة لمنزله الذي قصفه الاحتلال مع ساعات الفجر.

واقفًا أمام مشهد قصف عمارتهم السكنية، يروي أبو نصر ما حدث وهو يجلس مع بضعة ناجين من العائلة في ساحة المشفى: "بقيت أناشد الأهالي والجيران لمساعدتنا بعدما سويت كافة الطوابق بالأرض، كنا ننتشل الشهداء بمصابيح الهواتف، وبقي نحو 130 شخصا تحت الردم".

بأدوات بسيطة ومساعدة الجيران والأهالي مع منع الاحتلال طواقم الدفاع المدني والإسعافات الأولية الوصول للمكان انتشل محمد أبو نصر جثث أقاربه، وجمع أشلاءهم المتناثرة على أسطح المنازل المحيطة، وكفنوا بأغطية وحرامات مع عدم توفر الأكفان.

من المشاهد المؤلمة في المجزرة، مشهد جثة فتاة يتدلى نصفها العلوي من نافذة بيت نحو الأسفل، أقدام أطفال شهداء عالقة بين طبقة السقف وأرضية الشقة، أشلاء متطايرة على بيوت الجيران، ونساء وأفراد يبكين على ذويهم وأقاربهم، وأفراد ينزلون الأشلاء بواسطة حبال من أبنية مجاور لمنزل العائلة.

لم تكن هذه أول مجزرة يرتكبها جيش الاحتلال، فسبقها مجزرة استهداف ساحة مستشفى اليمن السعيد وأسفرت عن استشهاد 17 شخصا على الأقل، بعدها قصف طيران الاحتلال مدرستين تؤويان نازحين، ومنازل عدة في مخيم جباليا شمال القطاع، ما أدى إلى استشهاد 20 فلسطينياً وإصابة آخرين، بينما قصفت مدفعية تجمعاً للأهالي داخل مركز لتوزيع المساعدات في المخيم غالبيتم نساء ومسنون ، ما أدى إلى استشهاد 10 على الأقل.

وأمام منظومة صحية عاجزة، بعد استهداف المستشفيات وسيارات الإسعاف والطواقم الطبية، بات النجاة من الإصابة أمرا صعبًا، فالكثير من المصابين شمال القطاع نزفوا حتى الموت، وبات شمال القطاع خاليا من أي سيارة إسعاف أو دفاع مدني بعد قصفها من قبل جيش الاحتلال.

وفي وقت كانت إدارة مستشفى كمال عدوان تطالب منظمة الصحة العالمية واللجنة الدولية للصليب الأحمر بالتدخل لوقف الإبادة التي تتعرض لها المستشفى من قبل جيش الاحتلال، وتوفير الحماية لها، ما جعل المنظمتين ترسلان وفدا طبيا للمشفى،  تعرضت المشفى للقصف أثناء وجود الوفد.

وأفاد مدير مستشفى كمال عدوان في شمال غزة حسام أبو صفية بأن الطابق المخصص لإيواء الأطفال تعرض لقصف شديد وخلف إصابات خطيرة بين الأطفال، مضيفا "نتعرض لحرب إبادة جماعية داخل المستشفى".

ولفت إلى أن "المستشفى يضم 120 جريحا -بينهم 19 طفلا و4 حديثي الولادة- وأن قسم العناية المركزة ممتلئ بالحالات"، مبينا، أن سطح المستشفى وخزانات المياه وساحة المستشفى تعرضت للقصف بأكثر من 4 قذائف.

المسعف الشهيد

لم يمنع كل هذا الاستهداف الطواقم الطبية من المخاطرة بأرواحهم والتوجه نحو البيوت المستهدفة مشيًا على الأقدام، كما فعل المسعف الشهيد أحمد النجار الذي حمل روحه على كتفه وأسعف الكثير من الحالات المصابة التي لم تتمكن من القدوم للمشفى، رغم وجود طائرات تعج بها سماء المخيم.

يروي فادي خليل لموقع "فلسطين أون لاين" الحدث الذي وقع بجوار منزله بمخيم جباليا قائلا: "بعد انقطاع المياه تسعة أيام متواصلة، قامت البلدية بوصل خط المياه وأثناء محاولتنا تعبئة المياه قصفتنا طائرة حربية بدون طيار فأصيب جارنا، ثم فجروا برميلا متفجرا في بيت جيراننا لعائلة السيد فاستشهد بعضهم والبعض الآخر بقي يناشد تحت الردم وكنا نسمع نداءاتهم ونتواصل مع الدفاع المدني لإخراجهم".

وأضاف وهو يستعيد تفاصيل الحدث الأليم: "مع تأخر حصول الدفاع المدني على تنسيق من قبل "الصليب الأحمر" ومع صبيحة اليوم التالي قدم المسعف أحمد النجار للمكان وأجرى إسعافات أولية للمصابين من عائلة السيد وكانوا أم وأطفالها، وأثناء محاولته الخروج بهم قصفتهم الطائرة على مدخل بيتنا، واستشهدوا جمعيا".

 كان المشهد مروعا بالنسبة لخليل وهو يرى جثث الأطفال ممددة أمامهم، توقع أن يكون منزله الهدف التالي، فاتخذ قرارا بالمغادرة بين ممرات الموت، فانتقل لبيت آخر بمحيط مدرسة الفاخورة، لكن المنطقة لم تسلم من القصف المتواصل واستهداف أي شخص يتحرك على باب المدرسة، كما أن المروحيات الحربية (آباتشي) شاركت بإطلاق الرصاص على منازل المواطنين مع قصف مدفعي وجوي متواصل، وصل بعضها لزوايا منزله، فكان مدخل البيت مكانا احتمى فيه هو وأطفاله وشقيقه وأطفال الأخير.

وعندما وصلت دبابات الاحتلال للمنطقة، أمهل جيش الاحتلال الناس قبل وصوله 20 دقيقة لإخلاء مراكز الإيواء والمنازل باتجاه مشروع بيت لاهيا لحشرهم بتلك المنطقة ثم إجبارهم على المرور بجانب المشفى الإندونيسي للخضوع لحواجز تفتيش أخيرة (حلّابات) بالإدارة المدنية قبل إخراجهم لشارع صلاح الدين ومن ثم لمدينة غزة.

أجبر جنود جيش الاحتلال الرجال على التجرد من الملابس مع ارتداء الملابس الداخلية، وسار مع مسير من الرجال مقيدي الأيدي بمرابط بلاستيكية، خلال مسير استمر سبع ساعات مجردا، من ملابسه يسير بين الركام وجثث الشهداء المتحللة.

كانت خاتمة المسير سوداوية بالنسبة لخليل الذي تفرق عن زوجته وأطفاله، عندما وضعهم جنود جيش الاحتلال في حافلة وقال بسخرية رسمتها ملامحه: "سنقللكم على جنوب القطاع"، في لحظة أظلمت الدنيا أمامه وتوقفت عن الدوران، متخيلا شكل الحياة وحيدا بعيدا عن عائلته وأطفاله، وسارت الحافلة باتجاه غرب مدينة غزة على عكس الممر الذي وضعه الاحتلال للمشاة شرق بيت لاهيا، وتوقفت الحافلة وأنزلتهم قرب مدينة غزة، لينتهي الصراع الداخلي ويلتقي مع عائلته هناك.

ولأجل طمس الحقائق ومنع التغطية، استهدفت قوات الاحتلال الصحفيين الذين يغطون اقتحام جيش الاحتلال لجباليا، فاستشهد المصور محمد الطناني، وأصيب زميله تامر لبد وهما يعملان بفضائية الأقصى المحلية، كما أصيب مصور الجزيرة فادي الوحيدي في رقبته تعرض على إثرها لشلل كامل، ويأتي ذلك بعد أيام من استشهاد الصحفي حسن حمد (19 عاما) في غارة استهدفت منزله بمخيم جباليا.

أما محمد لافي فاستمر وجوده داخل المخيم لمدة 20 يومًا، عاش خلالها تحت القصف المتواصل وشح المياه وصعوبة توفير الطعام، لم يذق طعما للمياه المحلاة، وكان يستطيع توفير المياه المنزلية بصعوبة شديدة.

يقول لافي لموقع "فلسطين أون لاين": "كنت أسكن في منطقة الفالوجا بمخيم جباليا، وتعرضت المنطقة للإبادة والقصف المتواصل من قبل طائرات الاحتلال، فكنا لا ننام الليل من شدة القصف، واشتد القصف العنيف حتى آخر أيام وجودنا بمحافظة الشمال عندما طلبت طائرات الاحتلال المسيّرة عبر مكبرات الصوت إخلاء البيوت".

ورغم محاولة العائلة المكونة من 10 أفراد النزوح من المنزل كغيرها من العائلات التي خرجت من بيوتها، إلا أن طائرات الاحتلال قصفت عائلة نازحة واستشهد أفرادها، يستحضر المشهد: "كان الأمر صعبا، جعلنا نتوقف قليلا، ونتساءل: "هل نعود للمنزل فيقصف علينا أم نسير ونموت مثلهم؟" فكنا أمام خيارين أحلاهما مر".

يكمل: "قمنا بالخروج من المنزل ومررنا بجانب جثث الشهداء وسلكنا الطريق الذي سلكه النازحون باتجاه المستشفى الإندونيسي ثم الاتجاه شرقنا بعد تجاوز حاجز عسكري إسرائيلي والنزوح لمدينة غزة مجبرين على النزوح القسري".