فلسطين أون لاين

​"سامر صيام" مدرسٌ مثقفٌ ورأس حربةٍ إن لزم الأمر

"حارس الأقصى" وحكاياتٌ من تحت القبّة المذهّبة

...
سامر صيام
كتبها من غزة- يحيى اليعقوبي

الواحدة فجرًا.. على باب حطة يطلب حارس الأقصى "سامر صيام" من زميله الالتفات إلى امرأة محجبة ترتدي جلبابًا يلمع! كأنه جديد لا تبدو عليه آثار تعرجات بسبب الصلاة.. مرت من أمامهم في ليلة القدر بشهر رمضان المبارك لعام 2005م، وكانت تحمل حقيبة تضع يدها عليها؛ كأنه حدس داخلي يحدث رفيقه: "أشك بتلك السيدة"؛ لكن صديقه عدّ الأمر عاديًا: "وإذا كان الجلباب لامعًا أين المشكلة؟".. في الوقت الذي عادا فيه يتبادلان الحديث كانت السيدة قد دخلت إلى ساحات الأقصى، وهاجسًا ما دفع صيام للحاق بها.

بداية "صيام" مع وظيفته كحارسٍ للمسجد الأقصى، كانت منذ ولد في 29 أبريل/ نيسان من عام 1974م في بيتٍ ملاصقٍ للحرم محاذٍ للمئذنة الحمراء قرب بابي "الناظر" و"الغوانم"، هناك، ومن بين نوافذ المدرسة العمرية التي كان طالبًا فيها نسج كل ذكريات طفولته.. هناك كان يحدّق طويلًا إلى قبة الصخرة الذهبية ويؤمن حد "اليقين" أن حياته أولها وآخرها ستكون هنا.. وهذا ما حدث.

في السنة الدراسية الأولى في المرحلة الجامعية، كان صيام يبحث عن عمل فقدم لوظيفة "حارس" في الأوقاف الأردنية.. كانت الفرص محدودة حينها، فاضطر إلى تغيير الخطة نحو "إسرائيل"، عامل في فندقٍ أو مطعم قد يفي بالغرض، لكن "الرفض كان حليفي الدائم.. ذلك لأن القدر كان يخبئ لي الأجمل" يقول.

فوجئ سامر عام 1996م بموافقةٍ على طلب وظيفته أخيرًا! وأصبح حارسًا للأقصى في الفترة المسائية -بما يتناسب وظروف جامعته- وبراتب "180 دينارًا، "عندها انشرح قلبي للخبر، انشرح لأنني سأبقى هنا.. في رحاب المكان الذي أحب.. ولم أتذكر المال إلا بعد ساعاتٍ مرت على صدمة الفرحة" يعلّق.

ترى ماذا يمكن أن تحمل ذاكرة حارسٍ يعيش في رحاب المسجد الأقصى أكثر من نصف يومه؟ ماذا يمكن أن يعايش في ظل استهدافه اليومي من قبل جنود الاحتلال ومستوطنيه؟ دعونا ننصت لما سيخبرنا به الأب لسبعة أبناء في سياق هذا التقرير:

قلب المؤمن

حسنًا، بالعودة إلى قصة تلك المرأة المجلببة -في بداية المقدمة- وبعد لحاقه بها إلى باحات الأقصى، وصل إليها، ثم طرح عليها السلام باللغة العربية، فردت بلكنةٍ "عبرية"! أيقن حينها أنها "يهودية" فطلب من سيداتٍ كنّ معتكفاتٍ إيقافها، ثم أحضر لها شرطة الاحتلال كي تخرجها.

يقول: "عندما فتحوا حقيبتها لتفتيشها، بدت عليهم علامات الريبة! أخرجوا منها مادة غريبة كانت على ما يبدو تود استخدامها في الاعتداء على المصلين في الداخل، حينها أخرجوها بسرعة، وصادروا الحقيبة خاصتها (...) فيما بعد علمنا أنها من جماعات الهيكل المزعوم، وكانت بالفعل تحضر لاعتداء، بعد أن حاولت التسلسل إلى الداخل".

يعود صيام لـ"فتح شرفة الذكريات" أمام أول أيام عمله كحارس لهذا المكان المقدس فيصف المشهد بقوله: "أجلت نظري في المكان بشكل غريب.. كنت كأنني أدخل المسجد أول مرة، هذه المرة نظرت إلى الناس من واقع مسئولية".

كان "إيكيفا" إحدى العقبات الكبيرة التي تواجه حراس المسجد، وهو أحد اليهود المتدينين الذين يزورون الأقصى بشكل يومي منذ عام 1988م، إذ كان لا يفتأ يكرر جملته الشهيرة أمامهم: "هذا الأقصى إلنا.. وراح نبني هيكلنا مكانه!".

كنت أحاول مسك أعصابي قدر المستطاع، وأطلب من كل من يحاول الاقتراب منه نفس الشيء، حتى لا يكون ضربه مبررًا لدخول المئات غيره من اليهود الذين سيعتبرونه بطلًا لا بد من أن يدافعوا عنه.

كان "إيكيفا" يأتي برفقة حراسة إسرائيلية ويؤدي طقوسا تلمودية عند باب السلسلة ويغادر كل يوم، وهذا ما جعل حارس الأقصى يتعجب: كيف ليهودي كافر أن يأتي للأقصى كل يوم، وهناك من المسلمين -وإن كانوا قلة- من لا يذهب للصلاة فيه لو ليوم واحد.

الأمريكية "عائشة"

عام 2000م، كان هناك نظام متبع مع السياح الأجانب، بحيث ينتهي موعد تواجدهم في المسجد عند موعد إقامة صلاة العصر، ومن ثم يطلب منهم الحراس مغادرة ساحات الأقصى؛ لكن، وتحت شمس ظهيرة ذلك اليوم الذي لا يتذكر تاريخه صيام حدث ما لم يكن متوقعًا.

امرأةٌ أمريكية تقف داخل قبة الصخرة، وتدقق النظر بالسقف.. وقد بدا الذهول على ملامحها لشدة رونقه وجمال زخارفه.. أحد الحراس حاول أن يخبرها بـ"العربية" أن تغادر لكنها لم تفهم على ما يبدو، فاستعان بـ"صيام" كي يترجم لها.

اقترب منها بلطف وطلب منها المغادرة، هنا سألته: "لمن الوقت الآن؟"، فأجاب مبتسمًا: "هو للمسلمين"، فكان ردها التابع وكأنه رعدٌ سرى في كل جسده.

ابتلع صيام ريقه، وهو يحاول استيعاب الفرحة التي غمرت قلبه، طمأنها بأن تذهب الآن، وتعود في الغد كي يصطحبها إلى المجلس الإسلامي لتعلن اعتناقها الإسلام.

(السيدة الأمريكية) تساءلت ببراءة: هل أنت صادق؟ حقًا ستجعلني أدخل الإسلام بالغد؟ أم لأنك تريد إخراجي فقط الآن؟

ابتسم حارس الأقصى وأجابها: "بالتأكيد، عودي بالغد وستتأكدين من أنني صادق".

بالفعل عادت تلك السيدة وأعلنت إسلامها على يد الشيخ عكرمة صبري وأطلقت على نفسها اسم "عائشة"، ثم استمرت تأتي يوميًا لقبة الصخرة لمدة 15 يومًا متواصلًا حتى انتهت إقامتها وغادرت القدس.

ميلاد الجندي

من أعماق ذاكرته يقودنا إلى ذلك اليوم؛ رجلٌ أمريكي عند باب المصلى القبلي يجهش بالبكاء.. يسأله حارس الأقصى باللغة الإنجليزية: "ماذا بك؟ لماذا تبكي هكذا؟ نظر إليه الأمريكي الذي تبين فيما بعد أنه يعمل جنديًا، ثم جلس بقربه وبدأ يحدثه:

أقسم الجندي الأمريكي الذي رفض المشاركة في اجتياح العراق عام 2003م أن يذهب في يوم ميلاده الأربعين إلى الأقصى، ليعلن أمام نفسه ولادةً جديدة، وينطلق من هذه البقعة المباركة لرحلةٍ جديدةٍ في حياته "رغم أنه اعتمر مرتين وحج في بيت الله الحرام مرة واحدة".

احتكاك يومي

وما زال يتحدث عن تفاصيل ومهام عمل الحراسة فيضيف: "في عملنا، لا بد من تبادل الحديث -مهما تفادينا ذلك- مع الشرطة الإسرائيلية، وأحيانًا يحاولون إغواءنا والتقرب إلينا بالشاي والقهوة، "وهذا ما يفسر كرههم لي، إذ إنني لا أتحدث معهم إلا في إطار الوظيفة فيما يتعلق بفتح وإغلاق الأبواب".

ما سبق دفع بأحد أفراد شرطة الاحتلال –وكان من أصل درزي- إلى الاعتداء على "صيام" مرةً، ما تسبب بكسر عظام صدره، ومكوثه في بيته بعيدًا عن أبواب المسجد مدة شهرٍ كامل "حدث ذلك عام 2006م.

قبل أن يمعن "صيام" في تفاصيل المهنة، ومع استمراره في حراسة المسجد "ليلًا" طيلة الفترة ما بين 1996م ويومنا هذا، حصل على البكالوريوس في الدعوة وأصول الدين من جامعة القدس أبو ديس، ثم أتبعه بماجستير الدراسات الإسلامية من ذات الجامعة، ليلتحق بمهنة التدريس لمدة 17 عامًا إلى أن تركها العام الماضي "ليتفرغ لحراسة المسجد فقط".

نحن من نملك المفاتيح

يعرف عن "صيام" بأنه لا ينام في فترة الحراسة الليلية، ويفضل دائمًا "الحملقة" في قبة الصخرة بكل حالاتها، وتخيلوا؛ في هاتفه أكثر من 5 آلاف صورة لها قام بالتقاطها بنفسه ومن كل الجهات.

عند السابعة والنصف مساءً يجلس صيام عند باب الناظر، أحد أفراد شرطة الاحتلال يطلب منه إغلاق الباب فيرفض نظرًا لوجود امرأة مقدسية لم تخرج بعد.. يعلق على ذلك: "نحن الذين نحمل مفاتيح أبواب الأقصى؛ نفتحها ونغلقها متى شئنا إلا مفاتيح باب المغاربة، فقد استولوا عليه عنوة يفتحونه بإرادتهم هم".

و"هناك مخالفة بالسجن لمدة عامين، إذا فكر أحد الحراس بفتح الباب دون وجود شرطة إسرائيلية"! يتابع وقد ظهرت في صوته غصة: "المهم وجودنا يكفي لإظهار أننا أصحاب المكان، فنحن من يتملك المفاتيح (..) وكل الناس يفترض أن يكونوا حراسًا للأقصى من باب التواجد فيه والدفاع عنه والشعور بعظم المسؤولية".

على أعتاب كانون أول/ ديسمبر من هذا العام، سافر حارس الأقصى لألمانيا ومنها ذهب إلى سويسرا، وحينما وصل، وأثناء التجوال، أدركته صلاة العصر فذهب إلى أحد المراكز الإسلامية؛ انتهت الصلاة وأراد المغادرة من باب المركز، لكن خطواته تراجعت للوراء ونظر إلى صورة معلقة في الحائط للكعبة والمسجد النبوي.. تساءل: "ولكن.. أين صورة المسجد الأقصى؟"، وجه السؤال ذاته لمدير المركز، موصيًا إياه بضرورة فعل ذلك للتأكيد على أهميته كوقف إسلامي عظيم.

أخرج المدير ملفًا لوثيقة إسلامه.. وكانت من الأقصى! تحديدًا على يد الشيخ رئيس الهيئة الإسلامية العليا في القدس عكرمة صبري وأخبره مبتسمًا: "ذهبت للأقصى نصرانيًا وأسلمت هناك.. لا تقلق، هذا المكان عظيم وإن فاتنا وضع صورته".