لا شيء أجمل من تلك المساحات الزراعية مترامية الأطراف، شرق حي الشجاعية. مناظر أخاذة ومشاهد خلابة. في الحقيقة ستجبرك على التوغل فيها لتتمتع بخضار أرضها الواسعة، وتربتها الطينية ذات اللون البني.
لكن ثمة شيء ما يلوح في الأفق، ستراه وأنت تقف على الأطراف الشرقية للحي المشهور، الواقع إلى الشرق من مدينة غزة.
من المؤكد أن نظرك سيتعلق بأشياء تلمع وتنطفئ على حين غرَّة، وستسمع أزيز الرصاص من بعيد، وقد بددت أصواته ذلك الجمال الهادئ.
من على الخط الشرقي، كان المشهد ضبابيًا قرب موقع "ناحال عوز"، وحاجز "كارني"، ليس بسبب أجواء الطقس المتقلب هذه الأيام، وإنما بسبب قنابل الغاز التي تتدفق من فوهات رشاشات قوات الاحتلال، تتواجد بكثافة هناك هذه الأيام.
وبالكاد قد تتحمل الوقوف أمام ما يجري هناك بمجرد وصولك إلى ساحة المتظاهرين، بسبب كثافة الغاز المسيل للدموع، فضلاً عن الرصاص المعدني المغلف بالمطاط، والذي إذا ما أصاب أحد، سيسبب جروحًا مؤلمة.
يكاد الدخان المتصاعد من الإطارات المشتعلة، يحجب المتظاهرين عن أعين قناصة جيش الاحتلال المتمركزين خلف السياج الفاصل بين قطاع غزة والأراضي المحتلة سنة 48.
أمام كل هذا، لم يتراجع الفتى فادي بكرون (16 عامًا) عن قراره بالوصول إلى ساحة المواجهة.
بدا فادي وهو يقود دراجته الهوائية فوق التربة الزراعية، مندفعًا للمشاركة مع المئات ممن كانوا في مواجهة مباشرة مع قوات الاحتلال.
في المشهد الآخر، لم يجرؤ جنود الاحتلال على الابتعاد عن ثكناتهم العسكرية المحصنة وهم مدججون بأسلحة مختلفة.
كانوا يطلون برؤوسهم من خلف الثكنات ويستهدفون المتظاهرين إما بقنابل الغاز أو بالرصاص الحي والمطاطي.
في الجهة المقابلة لهم، تسلقت مجموعة من الفتية السياج الفاصل، ومد أحدهم يده من فتحة صغيرة في السياج إلى داخل الأراضي المحتلة، وبدأ يلوح بالعلم الفلسطيني، لم ينتظر جنود الاحتلال طويلاً هذا المشهد الاستفزازي.
"انظر هناك؛ لقد أطلقوا النار" قال فادي لـ"فلسطين"، وهو يشير بيده إلى قنبلة غاز أطلقها جنود الاحتلال وارتطمت أرضًا، وخرجت شرارة حمراء منها قبل أن تنفجر وتبعث غازها المسيل للدموع في الأرجاء.
ما أن تلاشى الغاز، حتى عاد الفتية وتسلقوا مجددًا السياج الفاصل رافعين شارة النصر في وجه جنود الاحتلال.
في مشهد آخر، عاد بنا إلى انتفاضة الحجارة في 8 ديسمبر/ كانون أول لعام 1987، كان فتى يغطي رأسه بلثام أسود، ويحمل كومة من الحجارة بيديه.
"جئت إلى هنا صباحًا حتى أُطبِّش (ألقي) الحجارة على جنود الاحتلال"، يقول الفتى الملثم البالغ من العمر (15 عامًا).
"يقفون على مسافة بعيدة منّا، ولا تصلهم الأحجار التي نلقيها في أحيان كثيرة".
الفتى محمود بكرون (16 عامًا), بدا هو الآخر على أتم الاستعداد لمواجهة جيش الاحتلال بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 6 ديسمبر الجاري، أن مدينة القدس المحتلة، عاصمة لـ(إسرائيل).
يداوم بكرون على الحضور إلى منطقة "ناحال عوز"، وبدا منهكًا أثناء حديثه مع "فلسطين"، بعد ساعات طويلة قضاها في الكر والفر من الرصاص والغاز.
كان الغبار يحتل مساحة النظر إلى جسده النحيل، وعلى ساقيه أثر ندبات النباتات الشائكة، بيد أنه كان مصرًا على المشاركة في المواجهات.
عن سبب مجيئه يقول: "دفاعًا عن القدس والأقصى. سآتي كل يوم هنا للتظاهر وإلقاء الحجارة".
وكانت الحدود الشرقية لقطاع غزة تحولت إلى ساحة معركة بين المتظاهرين وجنود الاحتلال، في أعقاب القرار الأمريكي الذي أثار ردة فعل ليست محلية فحسب، بل عربية وعالمية رافضة له، ومنددة به.
وأصدر ترامب قراره بشأن القدس في ذات العام الذي صادفت خلاله المئوية الأولى لوعد "بلفور" المشؤوم، وتحديدًا في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، إذ منح اليهود حق إقامة وطن قومي لهم على أرض فلسطين.
إلا أن الفتى محمد الزق (16 عامًا) والذي جاء إلى شرق غزة ليشاهد المواجهات، بدا وهو يتحدث مع "فلسطين"، على قناعة تامة بأن "من لا يملك ليس باستطاعته منح من لا يستحق"، كما يقول.
أما مصعب أبو عودة (18 عامًا)، كان حريصًا على وضع دراجته الهوائية في مكان آمن، حتى لا يفقدها (..) ليتمكن خلالها من المجيء في اليوم التالي والمشاركة في المواجهات.
يبدد هؤلاء الفتية ما جاء على لسان رئيسة وزراء الاحتلال "غولدا مائير" قبل عشرات السنين، من "أن الكبار يموتون والصغار ينسون".
لكن أبو عودة الذي جاء من معسكر الشاطئ غربي غزة، إلى شرقها، يقول: إن الكبار يموتون، والصغار لا ينسون، والدليل هؤلاء الفتية.
إذًا، ثمة إصرار من هؤلاء الفتية على مواجهة الاحتلال، وتمسك بالحقوق والثوابت يعكسه استعدادهم للتضحية بأرواحهم فداء القدس وفلسطين، كما يقولون.
بمرور الوقت، آن غروب الشمس وبدأ الظلام يسدل نفسه على المكان، ومع ذلك تعالت الهتافات الرافضة للقرار الأمريكي حول القدس، وقوبل ذلك بإطلاق جنود الاحتلال وابلًا من قنابل الغاز.
بدأ المتظاهرون في العودة إلى الوراء، إذ أمامهم مئات الأمتار ليقطعوها وصولاً إلى منازلهم، لكن المواجهة لم تنتهِ بعد هناك، شرق الشجاعية.

