فلسطين أون لاين

​رحلة عذاب من "جحيم معبر رفح" إلى إسطنبول

...
كتبت - حنان مطير

توهّجت سماءُ إسطنبول" وسط العتمة، وومضت أعمدة النور لتُحيي المدينة والقلوب، ففي ذلك اليوم ينتهي العام بأفراحه وهمومه، ويُولد عام جديد يحمل في طيّاته الكثير من الآمال والمفاجآت، فتلألأت عيونُ المحبّين، ورفرفت قلوب العاشقين، إلا قلب الشاب الفلسطيني "هيثم عصفور" الذي عاد إلى بيتِه وحيدًا على غير هُدىً، وقلبُه يحترقُ لغياب عائلته الصغيرة المُحاصَرة في غزّة.

وصل إلى غرفته فلمَح علبةً فاخرة وضمةً من الورود الزكيّة ومعها بطاقة ملوّنة، وبلا اكتراثٍ فتحها وكلُّ ظنِّه أنها من صديق، ليُفاجَأ بتوقيع زوجتِه الذي أجّج في قلبِه نار الشّوق والبُعد.

يقول لـ"فلسطين": "اختلطت المشاعر، واشتد في قلبي الحنين، لقد شعرت بطيفها يمرُّ في غرفتي وابتسامتُها تتناثر في زوايا البيتِ وثنايا لُحُفي، وبلا وعيٍ أمسكت بالهاتف لأحادِثها، وأرتمي بين أحضانِ صوتِها وعيناي لا تكفان عن ذرف الدموع".

مطلع عام 2016م كان الأصعب في حياة المذيع مقدم البرامج هيثم عصفور (33 عامًا)، الذي غادر مدينة خان يونس موطنه الأصلي بعد العدوان الأخير على قطاع غزة عام 2014م لظروف خاصة بالعمل.

مخطط الرحلة

يروي: "كنت أعمل في فضائية الكتاب في غزة، حتى حصلت على عرض عملٍ أفضل في إسطنبول، فمرحلة الشباب هي أهم مراحل العمل وتطوير الذات وبناء المستقبل، سافرت عبر معبر رفح البرّي، وفي مخطّطي أن أصل إلى إسطنبول فأجهّز منزلًا وأتعرف إلى تركيّا من قرب كونها تختلف كثيرًا عن غزّة، ثم في غضون شهرين تلحق بي عائلتي".

العدوان الإسرائيلي على غزّة سبّب الكثير من الألم والمعاناة لطفلاتِه الثلاثة تالا ولين وتالين، كما كلّ أهالي قطاع غزة، ما جعله حريصًا على العمل على إلحاقهن به في أقرب وقتٍ ممكن، لكن الرياح تأتي بما لا تشتهي السّفن.

ويتابع حديثه: "كانت الحالة النفسية لصغيراتي وزوجتي سيئة جدًّا، خاصة أن بيتنا واقعٌ على الحدود الشرقية مع الأراضي المُحتلّة في المنطقة المُسمّاة "عبسان الجديدة"، وقد تضرّر كثيرًا بفعل القذائف الإسرائيلية التي كانت تتوغّل في المنطقة وتقترب شيئًا فشيئًا، فكان يسيطر عليهنّ الخوف والذعر، أصِبنَ بنقصٍ في الوزن والتشتّت النفسيّ والفعليّ، والبكاء والصراخ الدّائم، إذ قضينا ما يقارب الأربعين يومًا هاربين متنقلين بين بيوت الأقارب والأصحاب".

مرّ شهرٌ واثنان، تقدّم فيها هيثم للحصول على تأشيرة لزوجته وبناتِه، لكن المعبر ما زال مغلقًا، والاشتياق إلى العائلة الصغيرة يزداد ويتأجّج، ثم سرعان ما تحوّل الشوق إلى إحباطٍ، لعدم الموافقة على التأشيرة بلا سبب واضح.

يقول: "شعرت بأن لا مستقبل لي في تركيا، وأن العودة إلى غزّة باتت وشيكة، الأمر الذي يفرض عليَّ ترك عملِي الجديد، لكن الخيارات لم تكن كثيرة، فمعبر رفح ما زال مغلقًا ولا بوادر لفتحِه، في حين كان المُعزّي الوحيد لي في تلك المدة هي الصور الحيّة لعائلتي التي ترسلها زوجتي عبر برنامج (الواتساب)".

كانت زوجته ترسل إليه الصور في كل الأوقات والحالات، وفي بعض الأحيان يشتدّ به الشوق فيطلب منها التقاط الصور لصغيراتِه وهنّ نائمات ليخفف من حدّة شوقِه.

وببراءة الأطفال تكلمه صغيرتُه تالا وتقول له: "بابا كلّم عمو الطيّار وقل له صرنا جاهزين وبنستنى ياخدنا عندك"، فكلّ ظنّها أن طلب الطائرةِ متاحٌ كطلب السيّارةِ المحلّي والفوريّ في قطاع غزّة، يضيف: "كنت أخبرها بحقيقة المعبر المغلق وصعوبة القدوم، فلم أشأ أن أتركها على أملٍ وهميّ".

بصيص الأمل

قدم هيثم طلبًا جديدًا للحصول على تأشيرات الدخول، فتُزهر الدنيا بعينيه ويبدأ بصيص الأمل يُطلُّ شيئًا فشيئًا، بالموافقة على إصدار التأشيرات، لم تتسع الدنيا لفرحة زوجته، فسرعان ما حزمت الأمتعة وتأهبت للسّفر، وكأنّ الظروف في غزّة طبيعية ولا حصار ولا إغلاق ولا تشديد.

لكنه الشوقُ والأملُ والرّغبة في لمّ الشّمل مَا دَفعها إلى التصرّف بتلك الطريقة العاطفية، فيمرّ اليوم تلو الآخر والأسبوع يتلوه الأسبوع حتى قرّر الجانب المصري فتح معبر رفح يومين فقط للخارجين من غزّة بعد إغلاقٍ دام 100 يوم تقريبًا، يتابع: "لسوء الحظّ لم يُدرَج اسم عائلتِي في كشوفات المسافرين كآلاف المحتجزين في غزة، لنعود إلى مرحلة الإحباط من جديد".

جفاء

بالمقابل إن صلاحية التأشيرات التي تنتهي بعد ستة أشهر من إصدارها شارفت على الانتهاء، ومع مرور الأشهر بلا تنبؤات عن فتح المعبر تربّع المثل القائل: "البعد جفاء" في حياة تلك العائلة الصغيرة، فباتت الصغيرات يبعُدن وتفتر مشاعرهنّ، وضربات قلوبهن لا تتسارع بسماع رنة الهاتف، لم يعُدنَ شديدات الشوق إلى الحديث لوالدهنّ كما قبل، وكأنّ اليأس من لقائه تملكهنّ، والثقة بـ"الأمل الكبير" لم تعد ذات قيمةٍ لديهنّ.

لكنّ فرجًا جديدًا يعيد الأمل إلى قلب تلك العائلة، إذ أعلنت مصر فتحها المعبر أيامًا ثلاثة، هي في الحقيقة لا تكفي لاستيعاب الآلاف من المواطنين الغزيين، إلا أن الحظّ كان حليفهم في تلك المرة إذ أُدرِجت في الكشوفات أسماء بناته وزوجته.

حالةٌ من التوتّر والقلق تنتاب هيثم وهاجس إرجاع عائلتِه لا يفارقه، فأمام معبر رفح كل الاحتمالات المؤلمة والإحباطات واردة، يُعبّر عن شعوره في تلك المدة: "كنت أخشى لأي سببٍ من الأسباب إرجاع عائلتي، وحينها سيُحكَم عليّ بالإعدام".

ويضيف: "لم أكن أستطِع حجز الطائرة إلا بعد ضمان مغادرتهنّ المعبر باتجاه المطار، وبالعادة تفرض السلطات المصرية حظرًا يمنع الدخول بعد ساعةٍ مسائيةٍ معينةٍ".

تتصل زوجتُه وتخبره أنها خرجت من المعبر وفي الطريق لاستقلال سيارة إلى المطار، فتلمع عيناه ويدقّ قلبُه، لكن هواجس هيثم كانت في محلّها، إذ عاود الاتصال بها بعد دقائق قليلة لتخبره أنّهن دخلن في وقت الحظر، وأنهن أعدن إلى المعبر.

في تلك الأثناء كان مشهد ضحكات صغيراتِه، وخطوات أقدامهن الرّاكضة في البيت، وانفعالاتهنّ الكثيرة وهن يتسابقنَ للتأرجح بين يديه لا تغادر ناظريه ومخيلته المكتظة بالأفكار والهواجس والأمنيات والأحلام، بعد غيابٍ دام عامًا ونصف عام.

توقّفت المشاهدُ عن التحويم في مخيلته واسودّت الدنيا بعينيه، يشرح: "ثلاثة أيام قضيْنَها بلا نومٍ وبإعياء وتعب في معبر رفح، كي يتمكنّ من الخروج من سجن غزة والوصول إليّ، في حين كنت مسافرًا معهن بقلبي وعقلي وكلّ وجداني، وإن كنتُ في غرفتي، لم أنم في تلك الأيام الثلاثة سوى 6 ساعات".

لحظة اللقاء

مرّت الأيام الثلاثة كأنها ثلاث سنوات، حتى بدأ الفرج يقترب، كانت أصعب لحظات حينما ظهر رقم الرحلة التي تقلهن على شاشة الوصول في المطار، كما يقول هيثم، ويواصل: "وقفت بين الناس وبدأت أرفع رأسي بحثًا عن طفلاتٍ ثلاث وأمهنّ، لم أستطع السكون قط، جسدي كله منفعلٌ، كالطائر الذي ينتظر فتح القفص، فقد كنت كما لو أني محاصر مثلهنّ، وأنتظر فك الحصار برؤيتهنّ".

يكمل: "شاهدتني بناتي، فكُنَّ كمن صُدِمنَ، وقفن مكانهنّ، حتى زوجتي، وأنا، لِتَكسر "تالا" ابنتي الكُبرى حاجز الصمت وتركض إليَّ بسرعة، احتضنتها بقوة ولم أصدق أني أراهنّ مرة أخرى".

عادت العائلة الصغيرة لتجتمع تحت سقفٍ واحد، وعلى مائدة واحدة، يعملون ويخرجون ويرتحلون ويعوِّضون أشهرًا بائسةً قضوها في غزة الحزينة، لكن قلوبهم ما زالت هناك، وإن بعدت المسافات.

يقول: "أشتاق إلى أهلي وموطني وتراب أرضي، لكن الحياة وظروفها تفرض على الإنسان الحِراك والتفكير وبناء المستقبل، واليوم الذي يمرّ بعيدًا عن الأبناء لا يعوّض، فهم كالأشجار يكبرون يومًا بعد يوم، كنت أخشى أن يكبروا بعيدًا عن ناظري، إلى درجة أنه كان يصل بي الإحباط أن أتخيل نفسي أرى صغيراتي بعد 10 سنوات، فيتملكني الحزنُ أقصاه".

مُحاصر في إسطنبول

حقق هيثم جزءًا مهمًّا في حياتِه شابًّا له طموح وفكرٌ وآمال على صعيده العملي والأسري، لكنه لا يزال يصف نفسه بأنه "المحاصَر"، كان محاصرًا في غزة واليوم محاصرٌ في "إسطنبول"، يعبر: "منذ خرجت إلى إسطنبول أنا غير قادرٍ على لقاء أمي التي مرضت مراتٍ كثيرة، وتمنيت أن أكون بجانبها أقبّل يديها وأخفف عنها، لكن الحصار حال دون عودتي إلى غزّة حتى اليوم، أما أبي فأحنّ إلى جلساتي معه أسفل بيتنا نرتشف قهوتنا بحبّ، اليوم أنتظر وصل التيار الكهربائي في بيته كي أحدثه عبر (الماسنجر)".

ويقارن هيثم حاله وحال الغزيين بحال أصدقائه الذين يذهبون إلى زيارة أهلهم نهاية الأسبوع، وقد يفاجئونهم بزيارةٍ غير مرتبة، أكثر من مرة في السنة، فيتمنى أن ينتهي الحصار بعذاباتِه، وأن يصبح الشباب قادرين على تحقيق أحلامِهم إلى أبعد الحدود.

أيامًا مريرةً قضاها هيثم بعيدًا عن عائلته، هي في بلد وهو في بلد، بسبب الحصار المفروض على قطاع غزّة منذ عشر سنواتٍ متتاليات، لكنه مع تلك المعاناة يبقى وافر الحظّ مقارنةً بمن هم لا يزالون مُحتجزين داخل سجن غزة المكتظّ بالمواطنين، كالمرضى الذي ينتظرون الخروج للعلاج أو الموت في غزة ببطء، والطلاب الذين فقدوا منحهم الدراسية، والشباب الذين رسموا مستقبلًا معينًا خارج غزة، أو الذين فقدوا إقامتهم وتعطلت الكثير من أمور حياتِهم.

فهل يبقى الحصار مستمرًّا وتظلّ أحلام شباب غزّة تائهةً محاصرة؟، أم يا ترى تصدق الوعود وتُفتح المعابِر وينتهي العذاب؟