فلسطين أون لاين

​البائعة أم إيهاب عليان .. رسمت طريق "النور" على عربة "كارو"

...
بيت لاهيا - حنان مطير

جَلَسَت على عتبةِ بيتِها تهزّ رضيعتها بذراعِها، ثمّ أمسَكَتْ بذيل ورقةٍ خريفيةٍ ناشفة جوارها وعصرتها بيدِها فتفتّتت قبل أن تنثرها في الهواء، وتسقط دمعاتُها كما لو أنها تحاول طحن الألم من حياتِها فتعجز، حتى لمحتها جارتها العجوز فاقتربت وسألتها: "ليش بتعيطي يا بنتي؟" فتجيبها بلهجتها "اللّهوانيّة": "على حظّي السَّكَن.. أبكي على بختي يا خالتي".

هزّت كلماتُها العجوزَ، فهي التي ما زال الشّبابُ ينثر حُبيباتِه على وجهِها الطّريّ إذ لم يتعدّ عمرُها حينها 25عامًا، فعقدَت جبينَها وقالت لها بجِديّة ونُصح: "ارمِ البنت عن حضنك وانزلي بيعي معي، البيع مش عيب يا بنتي"، صُدِمت الصّبيةُ وسألتها باستنكار: "أبيع مع الرجال؟!" ثم انخرطت في بكاءٍ جديد، لتشدّ العجوز على يدِها وتربت على كتفِها وتُعلّق: "الشريفة يا بنتي تقعد بين مائة راجل وتظل شريفة".

حياة السوق

منذ تلك الساعة، ابتدأت أم إيهاب عليّان حياةً جديدةً مركزها الأسواق، لتتنقل من سوق معسكر جباليا، وجباليا البلد إلى سوق فراس والشجاعية، تنقل البضاعة على عربةٍ يجرّها حمار "كارو"، تشتري البضاعة من التّجار الذين ربطتها بهم معرفةٌ طالت حتى شارف عمرها على الستين.

تزوّجت أم إيهاب في سن صغيرة، وأنجبت أربعة من الذكور وسبع بنات، لكن زوجها مرض بشدّة وبات غير قادرٍ على العمل، ما اضطرها أن تستمر في العمل في السوق تبيع وتشتري مدة 35 عاما، حتى هذا اليوم.

تجلس على كرسيّها التقليدي في سوق مشروع بيت لاهيا شمال قطاع غزة، تعرض بضاعتَها الخضراء اللامعة، من ملوخية وخيار وبندورة وكل ما تتوقعّ أن يحتاجه الناس، لا تنادي أو تدلّل على بضاعتها، بل تنتظر رزقها بلا استعجال، فنصيبك لك ولن يأخذه غيرك، هذا شعارُها للأبد.

تقول لـ"فلسطين": "إنك لا تحتاج لأكثر من أن تتوكّل على الله في كلّ خطواتِك، وأن تكون طيب القلبِ لطيفاً في التعامل مع الناس، وترسم صورةً إيجابيةً عن نفسك لكل من حولك لتضمن بيع بضاعتِك وتكسب رزقك الحلال".

وتضيف:" 35 عاماً في السوق علّمتني يا بنتي الكثير".

ضريبة الفقر

سمعت أم إيهاب نصيحة جارتِها، فكانت تترك صغارَها عند إحدى الجارات، وتذهب لتحصيل رزق عائلتها، لكن حسرةً كانت تحرق فؤادّها حين تخرج وصغارُها يبكون رفضاً لخروجِها. توضّح:" كنت أتركهم وقلبي كالنار، أخرج كل يومٍ ودموعي على خدّي، والله وحده العالم كيف كان حالي".

كبُر الصّغار وتعلّموا في المدارس من ذلك الرزق اليسير، ومنه أيضاً رسمت أم إيهاب طريقاً من النور إلى أبواب الجامعات في غزة، فكانت تحرم نفسَها وتُقدّم لهم، وتُكثِر الدعاء أن يعوّضها الله بهم خيراً فينفعوها وينفعوا الأمّة الإسلامية.

واليوم، ما تزال تلك الحاجة ترسم الكفاح يومياً بعجلات عربتِها من بيت لاهيا البلد إلى سوق مشروع بيت لاهيا، وقبل الخروج وبعد العودة يهمّ أبناؤها كباراً وصغارً بتقبيل يديها عرفاناً بجميلِها وتقديراً لعمرها الضائع في الأسواق، تعلق:" يكفيني ذلك من أبنائي لكي أحيا حياةً راضية وقانعة، وأن يرزقني الله بزيارة بيت الله الحرام، وأن يفتح الرزق لأولادي الذين درسوا الجامعة وأضحوا بلا عمل، ثم أترك السوق وأضع رأسي على وسادتي مرتاحة البال".