فلسطين أون لاين

صرخةُ ضابط ملهوف بفقد مهجة قلبه.. "عزام" رجل المهمات الصعبة في الدّفاع المدني

...
غزة/ محمد حجازي

كما كل عابر إلى الحياة كان يفتش عزام عن بقايا الأمل، متمسك بالعرى المتبقية، ويجمع فتات الضحكات من بين الأنقاض وعلى الشرفات ويمسك بكلتا يديه اللحظات الأخيرة التي كان يطلقها الراحلون إلى السماء، يدني أذنه ويهمس بشفتيه "قل لأمي إني أحبها".

من داخل مركبة الإسعاف بشمال غزة، ينتظر الضابط محمد المهدي حسن عزام (25 عامًا)، التوجيهات من غرفة عمليات الدفاع المدني، لتنفيذ عدد من المهمات التي من شأنها إنقاذ حياة المواطنين، وتقديم الإسعافات الأولية اللازمة ونقلهم إلى المستشفيات.

ويقول عزام لـ "فلسطين أون لاين"، "إنني وفور تلقي الأوامر من غرفة عمليات الدفاع المدني بضرورة التوجه وسرعة الوصول لأحد المواقع المستهدفة بشمال غزة، وإنقاذ حياة المواطنين العالقين من تحت الأنقاض وتقديم الإسعافات الأولية اللازمة لهم، أذهب وزملائي دون تردد".

وفي تمام الساعة الـ 8 صباحًا بتاريخ 12/6/2024، صعد "محمد"، إلى مركبة الإسعاف حيث يبدأ عمله الصباحي كالمعتاد، حينها سُمع دوي انفجار ضخم هز أرجاء مدينة غزة، تلقى جهاز الدفاع المدني مناشدات عدة من المواطنين بضرورة التوجه لمنطقة الزيتون، حيث استهدفت طائرات الاحتلال الحربية أحد المنازل وسقط عدد من الشهداء والضحايا، فتلقى "محمد" وزملاؤه التوجيهات بالتحرك لهذه المهمة وعند وصوله كانت الصدمة الكبرى!.. حيث منزل العائلة.

يتابع: "عند وصولنا إلى منطقة الزيتون، والناس من حولنا يرشدوننا إلى المكان المستهدف، بدأ القلب بالانقباض وأصابني الارتعاش وشعرت حينها بالخوف"!!

ويضيف، "شاهدت منزلنا قد سوّي بالأرض، وجثة أمي ملقاة على ركامه، والدماء تغطي جميع أنحاء جسدها، وأنا أصرخ بصوت عالٍ ياما ياما علّها تسمعني أو تنظر إليّ، حاولت إسعافها والتأكد من نبضات قلبها فوجدتها قد فارقت الحياة، فتمالكت نفسي وجسدي وأصبحت أبحث عن أبي وباقي أفراد أسرتي المكونة من 6 أفراد، فأخبرني زملائي باستشهادهم جميعًا، فقلت محتسبًا أمري إلى الله، الحمد لله، قدر الله ما شاء فعل، إنا لله وإنا إليه راجعون".

واصل: "جلست على زاوية من ركام المنزل "أبكي"، تماسكت نفسي قليلًا وبدأت بالاتصال على شقيقتيّ المتزوجتين وأخبرتهما بتفاصيل الحدث، وأخذت أصبّرهما وأواسيهما، وسط حزن وصدمة من زملائي الذين رافقوني بهذه المهمة، حيث بدؤوا بمواساتي بعدما حل بي الموقف الأليم والصعب في وداع عائلتي".

وأكد عزام، أن مجزرة الاحتلال بحق عائلته لن تثنيه عن تقديم الخدمات لأبناء شعبنا دون كلل أو ملل حتى لو كلفه ذلك حياته، لافتًا إلى أننا في حرب مفتوحة مع الاحتلال الإسرائيلي.

وأشار، إلى أنه وزملاءه الشجعان كما يصفهم، يشعرون بالعجز أحيانًا خاصة عندما يناديهم شخص من تحت الأنقاض ويطالبهم بإنقاذه، لافتًا إلى أن لهفتهم لإنقاذ عالقين أحياء من تحت الركام شعور لا يوصف ما يجبرهم على البقاء والصمود والصبر حتى إخراج الشخص بسلام وأمان.
ووصف عزام، هذه الحرب بحرب "الإبادة الجماعية" حيث قال: "إن هذه الحرب لا تشبه أي شيء جربناه سابقًا ونعجز عن وصفها، انتشلنا خلال عملنا في الحروب السابقة الكثير من الضحايا ولم نشعر بالعجز مطلقًا، بينما هذه الحرب صعبة وكارثية، خاصة وأن الاحتلال يستهدف الطواقم الطبية والإسعافية والصحفية بشكل مباشر ومتعمد وأوقع العديد من الشهداء والجرحى". 

تابع: "هناك إصرار على العمل رغم المصاعب والمخاطر التي نواجهها بسبب حجم الدمار والقصف الكبيرين وهو ما يفوق طاقاتنا وإمكاناتنا وقدراتنا، لكننا نبذل كل ما نستطيع لدينا من جهد، فالكارثة كبيرة وتعجز عنها دول".

ولفت الضابط في الدفاع المدني، إلى أنه وزملاؤه يشجعون بعضهم معنويًا بعبارات مثل: "شدّوا الهمة يا شباب وهناك مكان ثانٍ يجب أن ننتقل إليه وهناك أشخاص بانتظار رؤية أبنائهم"، داعيًا المؤسسات الدولية لحمايتهم ومحاسبة الاحتلال على جرائمه بحق شعبنا.

من ناحيته، أشاد الرائد في الدفاع المدني محمود بصل، بجهود الضابط "عزام"، قائلاً "إنه من الشجعان والأبطال في وحدة الإسعاف التابعة للدفاع المدني، حيث ظهر صبره وتماسكه وحبه للحياة، حيث عاد أدراجه للعمل بتفانٍ وإرادة وعزيمة قوية، تجاوز خلالها هذه المصيبة الصعبة.

وأكد بصل في حديثه لـ "فلسطين أون لاين"، أن "رجال الدفاع المدني بكل أطيافهم جزء أساسي في هذه المعركة التي يشهدها شعبنا، وأنهم يسطرون بصمودهم وثباتهم قصصًا عظيمة من قصص الصمود والتضحية التي سيخلدها التاريخ، وليكونوا بذلك شركاء في نصرة قضيتنا". 

وكما قال إن واقع ضباط وأفراد الدفاع المدني صعب وأليم، حيث يتفاجأ الكثير منهم باستشهاد أحد من أفراد عائلتهم، ما يؤثر سلبًا على حالتهم النفسية، لكن سرعان ما ينتهي عند الذهاب إلى مهام أخرى، مؤكدًا أنهم جزء أصيل من معركة الصمود والتضحية التي يشهدها شعبنا، وأن دماء عائلاتهم ليست أغلى من دماء أبناء شعبنا.

وأوضح، أن جهاز الدفاع المدني وحسب القانون الدولي هو جهة إنسانية خدماتية وله حصانة وحماية دولية، مشيرًا إلى أن الوضع في قطاع غزة أسوأ من الصور التي تعرض على شاشات التلفاز والهواتف المحمولة وغيرها، مشددًا على أن الدفاع المدني بحاجة ماسة لمعدات ثقيلة للمساعدة في انتشال الشهداء من تحت الأنقاض.

وأردف: "وسط نداءات لا حصر لها للمساعدة في إنقاذ المواطنين المحاصرين تحت الأنقاض والركام، تسعى فرق الإنقاذ والإسعاف جاهدة بلا كلل أو ملل لمساعدة الضحايا سواء كانوا شهداء أو جرحى"، موضحًا أنه ونظرًا لارتفاع أعداد الشهداء تحت الأنقاض، فإن تركيز طواقمه ينصب في إعطاء الأولوية لإنقاذ الجرحى الأحياء.

هي صافرة النهاية للحدث.. كيف للرجل الذي يزيل الركام وينفض الغبار ويدور في جوانب الزلزال ليبحث عن نافذة للولوج، كيف السبيل إلى أن يسمع أنفاس أمه أن يضم صوتها في اللحظات الأخيرة.. كيف له أن يقول لوالده الذي قال له "عازمك على شاي نار يا كبير" فتلعثمت الكلمات في فمه "سامحني يا حب قريبًا سنشرب".. إلى الملتقى.