في كلِّ مرةٍ أقابل فيها سؤالًا فقهيًا لا أجد صعوبةً تُذكَر في التفلّت مِنه بضميرٍ مُطمَئِنّ وجُملةٍ واحدة: "اسأل عالمًا ذا ذِكر". ولكنّي في هذه المرّة توقّفتُ كثيرًا عند هذا السؤال وطريقة صياغته التي لا أظنّ أن صاحبها كان يقصدها بهذه الدقّة. كان السؤال مُقتضبًا ومُركّزًا لأقصى حد، وهو ما أربكني على سهولتِه الظاهرة: هل الغناء حرام، أو أنّه يُعد فنًّا؟
قلت حينها إن الفنُّ شعورٌ وأداء، وقد تشعر بما لا عيب فيه لذاتِه وتُسيء التعبير عنه، أو تسلك مسلكًا محمودًا لتعبيرٍ خائن فتبتذل الأداة. على كُلٍّ، وفي الحالين: فإن ما ستقدّمه سيخلع عليه البعضُ صفةَ الفن، والبعضُ الآخرُ سيخلعها عنه. أمّا أن تُحسِنُ الأمرين فيتّزن معك كل شيء، فهذا أمرٌ آخر. أن تسمو في الشعور فتسمو بالأداة فهذا سِحرٌ وإعجازٌ من نوعٍ مُختلِف.
كان السؤالُ بسيطًا فيما بدا لي أول مرة، ولكن إقامة المقارنة بين الحرام والفنّ أوحت لي بقوّة أنّ الفنَّ لا يمكن أن يكون حرامًا، أو أن الفنَّ مهما بلغ من قوّتِه فلن يكون فنًّا حتى يستقيم مع الدين!
يقيم علي عزت بيجوفيتش في "الإسلام بين الشـرق والغرب" متلازمة ماتعة بين الفنّ والدين، يشـرح من خلالها مدى التناغم القائم بين الاثنين. الفنّ يعبّر عن الدين، والدين يستوعب الفنّ. الاثنان يتعاملان مع الشِق الأسمى من الكيان البشـري، مع الروح. الدين هو تأثيرُ السماء في الإنسان الذي يحتويه الفنّ لينطق به.. فكيف ينطق عن الشـيءِ شيءٌ يخالفه؟ كيف يُمكن للفنِّ أن يخرج عن إطار الدين ثم يبقى فنًّا؟ هل يكون مُمكنًا أن يتزاوج الضدّان؟
الفنُّ أكبر من مجرّد تعريفٍ لاصطلاح، وإنما هو سبيلٌ لرؤية الكون، وعيناي التي أُبصـِر بهما الحياة، في حين الدين هو النافذة التي تخرج من خلالها النظرات، وتُطلُّ بهما العينان على الوجود. وعليه فإن استقامت الرؤية مع حُدود النافذة تمتّع الرائي، وإن طغت رغبتُه على حدودِها شُقَّ الجدارُ بأكملِه وأوشك أن يتهدّم عليه، فأزرى بالشعور أو أخطأ الأداة. فالإبداع عندي ليس التميّز في ذاتِه، وإنما هو المقدرةُ الخاصة على ربط الأشياء غير المتوقعة بخيوطٍ ينسجها الفنّان وفق إطار المُتاح الشـرعي الذي سنّه الإله. فمن عجز عن الموازنةِ فهو عن الإبداعِ أعجز. فالفنّانُ الحق -أيّما كان فنُّه- هو القادر على التعبيرِ عن ذاتِه بما لا يخرج عن إطار خالقها الذي وضعه لها.
قد يظنّ البعض أن في ذلك تقييدًا لحريّة الإبداع، ولكنّي أرى فيه إطلاقًا من نوعٍ خاص، فالخالق الذي يخطّ لك المساحات لتتحرك فيها أكثرُ إحاطةً من نفسِك التي تفتح لك أمتارًا قد تودي بك. فهو عندما يحدُّك يخرج بك من ضيقِ نفسِك إلى سعةِ الدارين، ويحميك بالأملِ من العدم.
أمّا نفسُك وإبداعُها المُطلق -فيما يُدّعى- فهي لا تعلم الحقائق المتجاوزة لهذا الكون ولا تُبصـِر إلا تحت قدميها اللتين تدميان من الجُرح. لو تجاوزت نفسُك حدودَها لتحرّرت في مساحات الإله فأبدعت في رحابه.
فالفنّان عندي هو من التزم ما قال الإله أنّه يُصلح النفوس، فعزف بفنِّه مقطوعته الفريدة في روح الكون، وأرسى دُعمات الاستقامةَ فاستقامت بنورِه القلوب. وليس من شرخ الجدار بعملٍ أسماه فنًّا يصدع به جُدر السُموّ الإنساني غير عابئٍ بأخلاقِه ولا بِنائه الربّاني. فالأول عُصفورٌ يُغرّد في سِرب السماء، وريشةٌ ترسم الوجه الإنسانيّ على خلقةِ البارئ البديع. والثاني مِعولٌ يضـرب في أُسِس الأرواح، ووحلٌ يقضـي على ألوانِ الفضاء بسوادِ التراب، ناحِرًا أرواح الشِّفاء بأنصالِ السِّقام.
الفنّ هو تجلّي الدين في النفس، والدين هو إلهام الروح للفنّ. فمن وسع قلبه دينَه فهو لفنِّه أوسع، ومن ضاقت روحه عن طاعتِه فهو لفنِّه أضيع ما يكون. فليّس الفنُّ في التمرّدِ على القِيمة وزعزعتها في النفوس، وإنما هو الإبداعُ في إرسائها.